فن وثقافة

ألسنة متعددة وهجرات متكررة.. معرض فرنسي عن فن الغجر وثقافتهم في أوروبا

يُقام في مارسيليا معرض على نطاق غير مسبوق في فرنسا يضم أعمالا أسهمت بها مجموعات من الغجر في التاريخ السياسي والفني لأوروبا.

ويقول صاحب مجموعة من اللوحات التي تظهر شخصيات من الغجر الرسام إيمانويل باريكا (28 عاما) المنحدر من إحدى هذه المجموعات والذي يقيم في ألمانيا “إنّ الأشخاص العنصريين الذين يميزون بين الناس، ربما كانوا يحبون تشارلي شابلن ولا يعرفون أنه كان ينتمي إلى هذه الأقليات”.

ومن الشخصيات التي رسمها باريكا وشكّل نضالها مصدر إلهام له و”لعبت دورا في مناهضة الأفكار المُسبقة”، تشارلي شابلن وجانغو راينهارت الذي كان يعزف إلى جانب أبرز فناني الجاز الأميركيين، ولاعب كرة القدم الغجري باير أندريه، وألينا سيربان، أول كاتبة مسرحية من الغجر تدخل في سجل المسرح الوطني في رومانيا.

على واجهة متحف الحضارات الأوروبية والمتوسطية في مارسيليا، يبرز بأحرف كبيرة عنوان المعرض الذي افتتح هذا الأسبوع ويستمر حتى 4 سبتمبر/أيلول.

يتحدث الغجر اللغة الرومنية التي تحوّلت لما يشبه اللغات أو أشكالا متباعدة من الألسنة تسمى “المتنوعات”، ويخطئ كثير من الأوروبيين بالاعتقاد أن أصولهم تعود لشعب مصري قديم، ولطالما دحض البحث التاريخي هذا الاعتقاد؛ إذ يمكن إرجاع أصول شعب الروما والسنتي (الغجر) إلى شمال الهند وبالتحديد إلى منطقة البنجاب، ولا تزال لغة ذلك الشعب ترتبط باللغات “الهندية الأوروبية” الحديثة في شمال الهند.

هجرات قديمة متكررة
من المتفق عليه عموما أن مجموعات الغجر غادرت الهند في هجرات متكررة وأنهم كانوا في بلاد فارس بحلول القرن الحادي عشر، وفي جنوب شرقي أوروبا في بداية القرن الرابع عشر، وفي أوروبا الغربية بحلول القرن الخامس عشر. وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين، انتشروا في كل القارات المأهولة بالسكان، حسب جيسون داوسي الباحث والمؤرخ في معهد دراسة الحرب والديمقراطية.

زعم العالم السياسي (الألماني الأميركي) غونتر ليوي أن الأدلة على وجود الغجر في اليونان تعود إلى القرن الرابع عشر، خلال الفترة البيزنطية المتأخرة؛ إذ توجد سجلات تظهر وصولهم إلى أوروبا الوسطى آنذاك، واستخدمت لتصنيفهم كلمات في اللغات اليونانية والألمانية والإيطالية والفرنسية توحي بوضعهم المنبوذ ضمن التسلسل الهرمي الاجتماعي القاسي في المجتمعات التي عاشوا فيها.

ولتحديد السبب وراء ذلك التمييز بحقهم، يرى داوسي في مقاله بموقع المتحف الوطني للحرب العالمية الثانية الأميركي، أن العامل الرئيسي في تشكيل مواقف الأوروبيين تجاههم هو أسلوب الحياة المتجول الذي تمارسه العديد من عائلات الروما/الغجر خلال تلك الأوقات؛ إذ انتقلوا من مكان إلى آخر، مما ولد هالة من الغموض والشك بشأنهم.

وتشكلت الصور النمطية السلبية بالفعل في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، وعدّ “الغجر” قذرين ومخادعين وكسولين عن العمل وميالين للسرقة، وكان أبشع اتهام لهم هو أنهم يخطفون الشبان.

من الواضح أن العديد من هذه الصور النمطية مستمدة من صورة بدو الغجر، الذين يفضلون البقاء معا في قوافلهم الشهيرة، ومال الأوروبيون لربطهم بالمتشردين، علاوة على ذلك، بملابسهم ولغتهم المميزة فإن ثقافتهم -حتى لو اعتنقوا المسيحية- غالبا ما يتم التحقير منها على أنها شيء غريب وغير مرغوب فيه.

ولعبت العوامل الاجتماعية والاقتصادية دورا رئيسيا أيضا، واشتهر الغجر لقرون بمهارتهم كعمال معادن وصناع سلال، وغالبا ما استاءت النقابات المحلية من هذا النوع من المنافسة من خارج رتبها وتشكيلاتها المهنية.

ربما تكون الإجراءات الاقتصادية من قبل هذه النقابات قد دفعت رجال ونساء الروما للانخراط في ممارسة جرائم صغيرة، مثل السرقة، للتمكن من كسب العيش، كما أن استعداد الغجر للانخراط في ممارسات الكهانة لكسب المال أدى إلى المزيد من العداء بحقهم.

وأدى الصراع الديني داخل أوروبا (الإصلاح البروتستانتي) والحروب العثمانية الأوروبية إلى تفاقم العداء؛ ففي عام 1498، أمر الإمبراطور الروماني المقدس ماكسيميليان الأول بطرد الغجر، متهما إياهم بدعم الأتراك (تحول بعض الغجر إلى الإسلام في المناطق الخاضعة للسيطرة العثمانية). ومع ذلك، لم يتم تنفيذ الأمر بصرامة، وبين عامي 1551 و1774، أصدر حكام الأراضي الألمانية أكثر من 130 قانونا ضد الغجر.

عمل انتشار أفكار التنوير المتعلقة بحقوق الإنسان وتأثير الثورة الفرنسية الكبرى على تقليل العداء القديم ضد الغجر، ومع ذلك لم يكن الأسوأ قد أتى بعد، وعانى الغجر كثيرا -لا سيما شرقي أوروبا- وفي القرن التاسع عشر تم استعبادهم في أجزاء من إمبراطورية هابسبورغ النمساوية (ألغيت العبودية هناك خلال ثورات ربيع الشعوب الأوروبية عام 1848) وتم استعبادهم كذلك في والاشيا ومولدوفا (رومانيا الحالية).

الفن الأوروبي المتأثر بالغجر
ومع ذلك، يمكن للمتابع لسيرة الغجر أن يميز في تلك الحقبة انبهارا جديدا بثقافة الروما، نتيجة لتألق موسيقى الروما والرقص المميز لهم. ونشر الملحن المجري فرانز ليزت كتابا شديد التأثير عن موسيقاهم عام 1859. وفي النمسا، استخدم الموسيقي الألماني الكبير يوهانس برامز ألحان الروما في أعماله “الرقصات المجرية”، ولكن ثمة أسبابا أعمق من مجرد تقدير الفن العظيم وراء هذا الانبهار بالثقافة الغجرية.

مع انتشار الرأسمالية الصناعية من المملكة المتحدة إلى أماكن أخرى في أوروبا، ظهرت المصانع والعمل الآلي والانضباط الزمني وأيام العمل الطويلة للغاية في جميع أنحاء العالم، وسرعان ما جذبت حياة الروما -التي اتسمت بالحركة العشوائية والمضطربة- كثيرين من الذين شعروا بالاغتراب بسبب صرامة وقسوة هذا النظام الرأسمالي الجديد.

رأى العديد من الفنانين والمفكرين الأوروبيين -ولاحقا في أميركا الشمالية- ثقافة الروما على أنها ذات روح حرة وأقرب إلى الطبيعة ومثالية لوجودها المتجول والمتحرك بشكل مستمر، وكان هذا بمنزلة إسقاط لسخطهم أكثر من كونه جهدا جادا لفهم ثقافة على هوامش النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى