عروض إبداعية تخترق أسوار مدينة البوغاز العتيقة
يوم للفنون بامتياز شهدته مدينة طنجة، انصهرت فيه العروض والقراءات، والتشكيل والفنون الرقمية، مع الفضاءات العريقة والمهملة لطنجة العتيقة، ومتاحفها، في ظل حضور الجوارين الإفريقي والأوروبي.
مسار طنجة الفني” أحيى فضاءات مهملة في قلب المدينة العتيقة، وبث روح الإبداع في أخرى، مقدّما للطّنجيّين وزائري المدينة تجربة فريدة، تتجدد عروضها طيلة يوم كامل.
في متجر صغير بعقبة من عقبات “طنجة البالية”، أنابيب صغيرة تشدّ بعضها بعضاً خيوطٌ بقلبها “الحياة”؛ نباتات بجذورها واخضرارها، تُنَبِّه بِها صفاء الرواس على مدى هشاشة العيش.
على بعد خطوات في الدّرج، يجد الزائر نفسه أمام عرض فني أدائي، يتلاحم فيه العرض الكوريغرافي والموسيقى الحيّة. ومع توالي الساعات تختلف العروض، فيعزف “فالس أميلي”، وتغنّى “فلسفتي”، و”يا مسافر وحدك”، وأغانٍ وألحان أخرى.
قد يجد المشاهد نفسه يتابع قراءات ترافقها النغمات حول المأساة الفلسطينية وإلهامها العالَم الحيّ، وقد يجد في لحظة أخرى نفسه يتابع رسما يبدع أمام أعين الناس، أو أطفالا يطلقون العنان لخيال ريشاتِهم وأقلامهم.
في محطة أخرى، بالمسار نفسه، تجربة مثيرة للاهتمام تفكّ رتق صناعة العامل اليدوي (فنان الصناعة التقليدية). وبعرض مسجل، وعمل يضع أمام المشاهد نتائج هذه السيرورة، تفكر الفنانتان جونييف غليز وكريستين فيرير في العلاقة الممكنة بين الصانع والفنان، بين الفعل وعكسه، عبر فتق عقد “بَلْغَة” لإتاحة نظرة مغايرة للأشياء المعتادِ استعمالها.
في غرفة أخرى، تبدو عليها معالم الرحيل، صورٌ لسيف كوسمات لا تعتمد على اللقطة وحدها، بل تتمّم مسكوتَها كتابةٌ؛ فيرى الناظر صورة واحة ميتة، منحت جذورها قدرة الصّدح، لتقول إنها تبكي على ثمارها الميتة، وعلى بيع مياهها، وعلى تناسيها…
في مكان عرض آخر يُسمع صوت النباتات وتفاعلها مع لمسات الإنسان؛ عمل تجريبي لكمال غابط يقع في مكان بين الفن والمعيش، ينتصر للبيئة وحياتها، بتقريب صوتها من الإنسان، سيّدها المفترض.
في الطابق العلوي، يمتزج التاريخ والموسيقى، أو يجبر الجو الموسيقي المتابع على الجلوس لمشاهدة “التاريخ”: مقاطع من زيارة السلطان محمد الخامس، زمن الاستعمار، من أرشيف “سينماتك طنجة”، يتلاءم، كقطعة طبيعية مع الجو العام في المدينة العتيقة التي لا يتذكّر صورها إلّاهُ شخصية سياسية مسؤولة.
في محطّة أخرى، حضرت “الأزمنة الحديثة” بجداريات إيدغان وشارلي فيليبون، التي تتوسّل التعبير بطريقة “الفنون الشعبية المعاصرة”، مقدمة رموزا مجرّدة حول العيش المعاصر في المغرب، وفرنسا، وما جاورهما، شاهدة على نمط عيشٍ معولَم، تصير معه الخصوصيات باهتة، ومعاني اليوميّ مشتركة.
و يستمرّ المسار، لتستقبل أعمال نجوى الهيثمي الباحثين عن المعاني الفنية، أو اكتشاف عوالمها، بسعيها للمعنى، رسما ونحتا، ودأبها من أجل الإمساك بروحانية شحيحة في سعي الإنسان بشكل عام، وأشح في الزمن المعاصر، ووسائطه التعبيرية.
وعبر العظام، قبض محمد أهناش أثر جماجم حيوانات يراها أحجية، يعيد تركيبها بحثا عن حياة مضت، وعن تمثيلٍ ممكن لها في عالم لم تعد جزءا منه. تجربة مثيرة للاهتمام، لا تخلو من إحساس بالهيبة وتطلع للفرار، لِطالب في شعبة الفلسفة، أثارته العظام، وما تدل عليه، لمّا كان طفلا راعيا في قرية نواحي خنيفرة.
و لم تغب مواضيع راهنة عن ساحة التأمل عبر الفن، مثل الهجرة وازدواجية الرؤى حول المهاجرين القادمين من “ضفتنا” الجنوبية والمهاجرين القادمين من “ضفتهم” الشمالية. فرصة للنقاش، وللانتصار لممكنات الفن، بعيدا عن تجريد “الفن من أجل الفن”.
مسار طنجة الفنيّ هذا، فرصة للتفكير والاطلاع على تجارب فنية مغربية وأجنبية وتطورات المشهد الإبداعي، كما أنه فرصة لمساءلة دور الفنون في الفعل العمومي، ومثال للامتِثال يقدم لمدنٍ أخرى بالمملكة.