هل نتجه صوب حرب عالمية ثالثة ؟
العالم على أطراف أصابعه تحسّبًا لتطورات الحرب الأوكرانية التي قد تتحول حربًا عالمية ثالثة، مع تزايد احتمالات استخدام الأسلحة النووية حتى في حدها التكتيكي لحسم المعركة أو كخيار انتحاري أخير حال تيقن بوتين من الهزيمة التي لا يقبلها ولو أفنى العالم معه، أليس هو القائل: وما قيمة العالم إذا لم تكن فيه روسيا؟
حين سأل ابن أباه: ماذا أفعل حين أدخل في أزمة ولا أجد لها مَخرجًا؟ أجاب: عليك أن تواصل التقدم والغوص داخل المشكلة فلعلك تجد حلًّا. هذا ما يفعله بوتين الذي صنع الأزمة بنفسه، وخاض حربًا كان يظنها نزهة تستغرق أيامًا وتنتهي بنصر مؤزر يفرض به واقعًا سياسيًّا جديدًا، ويعيد به رسم الخارطة السياسية للعالم، فإذ به يغوص في الوحل، ولا يستطيع الخروج منه، وليس أمامه سوى المزيد من الغوص علّه يجد حلًّا.
رعب الحرب النووية
بينما كانت قوات بوتين تتعثر في مهمتها، وتضطر إلى الانسحاب من منطقة تلو أخرى، من المناطق التي احتلها الجيش الروسي في بداية الحرب، والتي تدعي روسيا حقوقًا تاريخية وثقافية فيها، إذ بالرئيس بوتين يُجري استفتاءات في تلك المناطق المحتلة، ثم يُصدر مرسومًا بضمها رسميًّا إلى الاتحاد الروسي، واعتبارها جزءًا لا يتجزأ منه، ويتعهد بحمايتها والذود عنها مهما كلّفه ذلك من ثمن، وتبع ذلك بإجراءات عملية لرفع معدل التعبئة العسكرية، وتزايدات التهديدات باستخدام السلاح النووي.
العالم كله في رعب من هذه التهديدات، لكن الأوربيين هم الأكثر رعبًا بحكم تماسهم المباشر مع أرض العمليات، وبحكم أنهم الهدف الأقرب والأيسر، والأكثر تأثيرًا بالنسبة لروسيا، ولذا أعلن العديد من القادة الأوربيين أنهم يأخذون التهديدات النووية الروسية مأخذ الجد، وشرعوا في اتخاذ إجراءات الوقاية لشعوبهم، وحتمًا سيكونون الأكثر تحركًا لمنع وقوع هجمات نووية، وهم الآن أمام اختبار عملي لنياتهم في التعامل مع طلب أوكرانيا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فلو أنهم وافقوا فسيكونون مطالَبين بتحريك قوات الناتو لتحرير الأراضي الأوكرانية المحتلة، وفي هذه الحالة ستعدّهم روسيا أهدافًا مشروعة لهجماتها.
ورقة جديدة بيد تركيا
وبمناسبة طلب أوكرانيا الانضمام إلى الناتو، فإن تركيا هي طرف فاعل أيضًا، وهي من أكثر المتضررين من توسّع الحرب أيضًا بوصفها الأقرب إلى جبهة العمليات، وبحكم علاقتها المتشابكة بطرفي الحرب، وقد سبق أن عرقلت لبعض الوقت انضمام كل من السويد وفنلندا إلى هذا الحلف حتى حصلت على مكاسب مهمة منهما، أما حسابات انضمام أوكرانيا فستكون أكثر تعقيدًا، وبالتالي فليس من المؤكد موافقة تركيا، علمًا بأن دستور الحلف يتطلب موافقة جميع الأعضاء على انضمام أي عضو جديد، وهكذا يمنح القدَر تركيا ورقة جديدة تساوم بها روسيا والغرب معًا، فإن نجحت في الحصول على مكسب كبير من روسيا يتعلق بالوضع في سوريا أو ليبيا أو أرمينيا مثلًا فقد تُعطل عضوية أوكرانيا في الناتو، وإذا استطاع الغرب بقيادة واشنطن ترضية تركيا بمكاسب سياسية مهمة فقد تمرر تلك العضوية .
الولايات المتحدة هي الأقل عرضة للخطر، والأقل تأثرًا بتداعيات أي هجمات حال حدوثها، واقتصادها هو الأقوى (يمثّل ربع اقتصاد العالم منفردًا) وهو قادر علي امتصاص أي تداعيات، ولذا فإن الإدارة الأمريكية تمارس المزيد من الاستفزاز لبوتين لدفعه إلى الانتحار النووي، حتى تخلو الساحة الدولية مجددًا لهيمنة واشنطن التامة التي تعرضت لبعض التحديات خلال السنوات الماضية خاصة من حليفاتها الأوربيات.
في المقابل، يراهن بوتين أنه لا يزال قادرًا على إعادة رسم خارطة التوازنات الدولية، وإنهاء الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، ويسعى إلى استقطاب دول وشعوب الحضارات الشرقية عمومًا من عرب وعجم لمواجهة الهيمنة العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية الغربية التي اعتاشت -ولا تزال- على امتصاص دماء هذه الشعوب وخيراتها وثرواتها، متجاهلًا في الوقت نفسه أنه يمارس السلوك ذاته في دول الجوار الروسي وفي سوريا على سبيل المثال.
خلال الحرب العالمية الثانية، نجح عدد من الساسة وقادة حركات التحرر العربية في الحصول على وعود من الدول الاستعمارية بإنهاء احتلال بلدانهم، وهو ما تحقق بالفعل بعد انتهاء الحرب، تحررت مصر وليبيا وتونس والجزائر والسودان والعراق وسوريا وغيرها، وتأسست خلال فترة الحرب نفسها جامعة الدول العربية برضا أوربي، ونحن الآن بصدد مشهد مشابه يحتاج إلى حسن تعامل من القادة الرسميين والشعبيين.
الأمر لا يقتصر على الحكومات وحسن اغتنامها لهذه الفرصة، إذ إنها غالبًا ستسعى إلى توظيفها لصالحها في المقام الأول، بل إن المطلوب وبشدة هو تحديد موقف للقوى والحركات والأحزاب الشعبية العربية من هذه التطورات، وتحديد مواطئ أقدامها في هذه المعركة العالمية المرتقبة، وتحديد مطالبها من الجميع لتحدد بناء عليها انحيازاتها وتحركاتها، وهذا ما يستدعي استنفار هذه القوى والحركات لطاقاتها وكوادرها ومراكزها البحثية في قراءة مشتركة للتطورات وتداعياتها وسبل الاستفادة منها.
يراهن البعض على أن كل درجات التصعيد الحالية هي ضمن سياسة حافة الهاوية لمحاولة تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية من دون استخدام حقيقي للسلاح النووي الذي يدرك الكبار بمن فيهم روسيا خطورته على الجميع، لكن حافة الهاوية غير مضمونة أيضًا، فضغطة زر نووي بطريق الخطأ في ظل هذه الأجواء الملتهبة كفيلٌ بإشعال الحرب العالمية مهما قدّمت الدولة الخاطئة من اعتذارات، ولذا فإن الواجب هو الاستعداد لكل الاحتمالات، وتلك مهمة الحكومات الوطنية من ناحية والقوى الشعبية وأدواتها ومراكزها البحثية من ناحية أخرى.