جدل ثقافي و سياسي حول الدراما التركية التاريخية
أضحت السينما في الزمن الراهن وجها من أوجه المخاض الثقافي والسياسي الذي تعيشه المجتمعات في لحظات التحول والانتقال التي تمر منها، ذلك أنها غير منفصلة عن الهواجس الكبرى التي تشغل عقل النخبة والمجتمع؛ فهي هواجس متعددة يمكن عبرها إدراك طبيعة الوعي المراد تشكيله من خلالها، بوصفها أداة فعالة في تضمين حمولة ثقافية وتصور للعناصر الفاعلة في تشكيل الذات الحضارية والثقافية عبر التاريخ، التي عرفت بعض التذويب والتغيير على مستوى الملامح والروح العامة، كما هي حال المجتمع التركي منذ تأسيس جمهورية تركيا الحديثة، مما ولّد جدلا مستمرا بخصوص الروافد التي تتشكل منها الهوية، والفضاء الحضاري الذي تنتسب له تركيا، تجلى ذلك بوضوح في وسائط إنتاج الثقافة والفنون، التي تعد الدراما أحد أوجهها.
نستحضر في هذا السياق مسلسل “المؤسس عثمان”، لرمزية الشخصية في التاريخ التركي والشرقي برمته، بل إن هذا العمل الفني يعالج شخصية تاريخية طبعت مسرح التاريخ العالمي وتقاطعاته لقرون طويلة، مما يستدعي النظر في دواعي العودة إلى التاريخ في الزمن الراهن بالتزامن مع تجاذبات الهوية الدائم، ومحددات العامل الثقافي والسياسي في تركيا الراهنة على أرضية الدراما التاريخية.
العودة إلى التاريخ من أجل المستقبل
ليس بدعا في تاريخ الشعوب والأمم أن يكون التاريخ خزانها الذي تستمد منه رؤيتها لذاتها، وطبيعة القيم التي تشكل شخصيتها ومنظورها العام للوجود، فكل نهضة أو تقدم يكون مهجوسا بالماضي بمقدار انشغاله بالحاضر والمستقبل، أي أنه يستبطن توترا بين الماضي والحاضر، لا سيما في المراحل الانتقالية التي تبرز معها حدة الاستقطاب والتجاذب في الجواب عن أسئلة ذات طابع حضاري: “من نحن؟” وماذا نريد؟
تستدعي هذه الأسئلة في واقع الأمر العنصر الثقافي في إمداداته للهوية، كما تشتبك واقعيا، ويستثمر فيها في المجال السياسي، لأنه بمقدار استدعاء قسمات الثقافة -بغاية التعريف المتجدد للأنا في سياق التكوين وإعادة التشكل، من خلال التصالح مع الماضي الذي تم القطع معه، على المستوى الثقافي بوسائط إنتاج الثقافة ومنها السينما- فإن ذلك لا يمكن أن يتم من دون إرادة سياسية. تتمثل تلك الإرادة السياسية التي تمثل غطاء لصيرورة التشكل الثقافي الجديدة القديمة مع الدراما، من خلال:
وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة، وطبيعة الرؤية التي يستبطنها ودعمه المعلن لمثل هذه الأعمال الفنية والمؤسسات الفنية التي تنتجها.
طبيعة الخطاب السياسي لرئيس تركيا رجب طيب أردوغان، في مد الجسور مع الرموز التاريخية والعنصر الديني والثقافي للشخصية التركية التي تشكلت كجزء من العالم الإسلامي ورائدة فيه لقرون طويلة، ويغذي هذه النزعة في السينما التاريخية، باعتبار العودة إلى الماضي لإعادة تعريف الذات في الحاضر، ذلك أن أي انعتاق من مأزق السقوط ولملمة الجراح يقتضي الوعي بالذات وبالتاريخ، من أجل الحاضر والمستقبل.
يظهر إذن أن استدعاء التاريخ لا يعني العودة إلى الماضي من أجل الاستقرار فيه، إنما بغاية الانبعاث منه من خلال التوليف مع الحاضر، ويبدو ذلك بشكل جلي على المستوى الثقافي الذي يعمل بمنطق التراكم وليس القطيعة، إذ إن للشعوب روحا عامة تشكل كينونتها، وبعدا نفسيا تطور على مراحل بفعل الامتزاج بين المعتقدات والعادات والطبائع، فالتكوين النفسي والثقافي للشعوب يعبر عن جملة من الديناميات والتفاعلات التي حصلت في مسرح التاريخ، لتفرز لنا قسمات وخصائص معينة، يصعب اجتثاثها أو الانقلاب عليها وتغيير الوجهة الثقافية لشعب برمته، كما حدث مع الأنظمة الشمولية، أو التحديث القسري بأدوات الإكراه كما حصل مع تركيا في حقبة أتاتورك، حيث تم تضمين خلفية ثقافية لا تعبر عن التكوين النفسي للشعب التركي، وتتنافر مع طبائعه وخصائصه النفسية والثقافية والدينية. ولا أدل على صدقية هذا الطرح من العودة البارزة لتلك الخصائص الدفينة التي ظلت كامنة، حينما زالت أسباب الإكراه، وطالت التعرية والاضمحلال أسس النموذج الشمولي لحساب نسق سياسي وثقافي تعددي.
يؤشر على صدقية ذلك أيضا أن قضايا الثقافة ديناميكية ومتحولة، تقترض من باقي الثقافات وتعمل على تخصيب وتجديد مقوماتها من دون انغلاق، حينما تكون بها مقومات التجدد والحياة والاستمرارية، لكنها تأنف الإكراه والتغيير القسري بفعل السلطة المادية وأدوات القهر السلطوي، لذلك نجد في تجارب متعددة عبر التاريخ فشل خيارات العنف والإكراه المادي مع الثقافة والهوية والأفكار أو القناعات، حيث تظل حبيسة الذاكرة، لتنتفض من جديد حينما يبحث إنسان ما أو مجتمع عن كينونته. حدث هذا مع الموريسكيين في الأندلس رغم ما تعرضوا له إثر محاكم التفتيش، ومع الهنود الحمر، والمجتمعات التي خضعت للأنظمة الشمولية في الحقبة الشيوعية، والأمر نفسه في تركيا الكمالية مع النموذج العلماني اليعقوبي الذي استبطن موقفا عدائيا من الدين والرموز الثقافية لمجتمع محافظ بطبيعته.