أم كلثوم… الست تؤلف قصائدها
في كتابه “أم كلثوم: الشعر والغناء”، يتناول أحمد يوسف علي، أستاذ اللغة العربية والأدب والبلاغة بجامعة الزقازيق في مصر، دور أم كلثوم الكبير في الصياغة النهائية للنصوص التي تغنيها، وهو دور يبدأ بقرار اختيار النص، ليمر -بحسب طبيعة كل نص- بعدة مراحل، كالاختصار، أو الترتيب، أو تغيير بعض الألفاظ، أو الجمل، أو التركيب من نصين لنفس المؤلف كما حدث في “الأطلال”. وتلك مهمة لم تكن أم كلثوم لتقوم بها لولا علاقتها العميقة بالشعر العربي، وإحساسها المرهف بظلال الألفاظ والتراكيب، وخبرتها في استشراف وقع الكلمة على الجمهور.
جاء أول مبحثين من الكتاب الصادر عن مركز أبوظبي للغة العربية، بمثابة تمهيد ضروري، رصد فيه المؤلف العلاقة التاريخية بين الشعر والغناء، ودور أم كلثوم في الارتقاء بمكانة المغنين في العصر الحديث، بعد أن صارت نموذجاً تتطلع إليه الأبصار للاقتداء والسير على خطاه، لأنها -وفقاً للمؤلف- التفتت إلى الغايات الكبرى للنهضة العربية، وأعادت الارتباط الوجداني بالفكر العربي واللغة العربية، بل إنها ارتقت باللهجة العامية لتقترب من أساليب الفصحى، في وقت كانت الأمية تهيمن على النسبة الأكبر من المستمعين.
ويناقش المؤلف السردية الشائعة التي تنسب اختيارات أم كلثوم من النصوص إلى الشاعر أحمد رامي، باعتبار أن مطربة العرب لم تكن تملك القدرات النقدية التي تسمح لها بانتقاء عدد محدود من أبيات قصيدة طويلة، أو ترتيب هذه الأبيات لتخرج متماسكة ومتسمة بوحدة بنائية متينة.
وعلى غير ما استقر في معظم الكتابات عن أم كلثوم، يرجح المؤلف انفراد كوكب الغناء بعملية الانتقاء، لعدة أسباب، في مقدمتها: قوة شخصيتها، واعتدادها بنفسها، وانفتاحها الكبير على المجتمع الثقافي في القاهرة، وقوة صلاتها مبكراً بأعلام الفكر والأدب. ويؤكد المؤلف أنه لا يغض الطرف عن العون الذي قدمه أحمد رامي لسيدة الطرب، باعتباره أستاذاً وصديقاً، لكنه يرى أن هذا العون كان بالإعداد والصقل والتهيئة، وبقي القرار النهائي في الاختيار بيد أم كلثوم وحدها.
ويدعم المؤلف ترجيحه بأحاديث منشورة لأم كلثوم، تؤكد قوة علاقتها بالشعر العربي، وقدرتها على الموازنة والتفضيل بين نصوصه، ومن ذلك إشارتها إلى تدوين مختارات شعرية تنتقيها أثناء مطالعتها لمصادر مهمة مثل “أغاني الأصفهاني” و”حماسة أبي تمام”. وقد بلغت هذه المختارات نحو ألف بيت، كما قالت في حوار لها مع رجاء النقاش.
وكذلك قولها عن أمير الشعراء: “كانت قصائد شوقي آخر ما يحتضن عقلي وقلبي قبل النوم. أنا متعصبة لشوقي تعصباً لا حد له، إنني أضعه في مرتبة تسبق مرتبة البحتري والشريف الرضي وعمر بن أبي ربيعة”. كما يستدل المؤلف على استقلال قرار أم كلثوم في اختيار نصوصها بما أنشدته من قصائد دينية كبيرة، إذ لا يُعرف أي دور لرامي في هذا الشأن.
ولتدقيق هذه المسالة، قسم المؤلف النصوص الفصيحة التي شدت بها أم كلثوم إلى قسمين: الأول، هو ما كتبه الشاعر لأجل الغناء، ثم قدمه لكوكب الشرق أو لأحد كبار ملحنيها، ليقترحه عليها، فتقبله وتغنيه بعد أخذ ورد ونقاش مع المؤلف أو الملحن. ولا ريب أن أحمد رامي كان صاحب النصيب الأكبر من هذه النصوص. والثاني، لم يكتبه الشاعر أصلا لأجل الغناء، وربما لم يخطر بباله أن تشدو به مطربة العرب، بل ربما كان الشاعر في عصر قديم، أو مات قبل أن تغني له السيدة أيا من قصائده.
ويجزم المؤلف بأن أم كلثوم مسؤولة وحدها مسؤولية كاملة عن اختيار نصوص هذا القسم، وعن ترتيب فقراته، وعن معانيه ومضامينه، وعن توقيت إظهاره، وعن تقديرها للسياق الاجتماعي الذي استدعى غناءه. وبالطبع، كان لأحمد شوقي نصيب الأسد من هذه النصوص، ليس فقط بعدد القصائد، وإنما أيضاً بطولها، فالقصائد الدينية الكبرى، كانت كلها من ديوان شوقي، وفي مقدمتها: “سلوا قلبي”، و”نهج البردة”، و”ولد الهدى”، و”إلى عرفات الله”. ويشير المؤلف إلى دور أم كلثوم الموسيقي، إذ هي التي تختار من فريق ملحنيها من تراه الأوفق لـ”يموسق” النص في صورته النهائية، وغالباً ما كان رياض السنباطي بطل هذه الملاحم الكبرى.
ولأهمية شوقي في مسيرة القصيدة العربية المغناة عموما، ومسيرة أم كلثوم على وجه التحديد، خصص المؤلف المبحث الثالث للنظر في “الشوقيات الكلثومية”، أو تلك النصوص التي اختارتها كوكب الشرق من ديوان أمير الشعراء كي تنشدها أمام جمهورها العريض.
وإذا كان شوقي قد وضع رؤيته في قصائده كما هي منشورة في ديوانه، فإن أم كلثوم -برأي المؤلف- قدمت تأويلها الخاص لهذه النصوص، وهو تأويل “غير مكتوب ولا ثابت ولا أحادي التركيب”، لأن رؤيتها قامت على نص لا يتطابق مع النص الأصلي كما تركه الشاعر، أولا، ولأن مؤولا آخر هو الملحن قدم رؤيته للنص منغماً ثانياً، ثم قدمت أم كلثوم كل هذا عبر رؤية صوتية وتعبيرات جسمية وإيماءات بصرية أمام جمهور محتشد منصت.
رصد المؤلف السياقات السياسية والاجتماعية التي واكبت “الشوقيات الكلثومية”، وسلط الضوء على جهد سيدة الغناء في الإخراج النهائي للنصوص. وتمثيلاً، عرض المؤلف للظرف التاريخي الذي استدعت خلاله أم كلثوم أبياتاً من قصيدة “سلوا قلبي”، إذ أرادت أن تنشئ عملاً غنائياً جديداً غير منسوب لفرد بعينه، ليعبر عما كانت تصبو إليه مصر من مطالب الحرية والاستقلال، وعما يبذله الشعب من جهد وتضحيات، وذلك باختيار أبيات متنوعة، تخاطب الوجدان الشعبي المتنوع أيضاً، أو بتعبير المؤلف:
“تلقاها فريق يخايله المثال الديني المتجسد في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتلقاها فريق من الذين يعيشون على ذكرى حب خلا لن يعود، وتلقاها الذين يطمحون إلى بناء أوطانهم وتوطيد أركانها، وتلقاها الذين يعذبهم الحنين إلى زمن مثالي، والذين يؤرقهم الشوق إلى القوة والمجد، والذين ذاقوا من الدهر كل كؤوس الشراب”.
ويتوقف المؤلف أمام الاستجابة الجماهيرية الكبيرة، والتفاعل الفوري الصاخب مع أداء أم كلثوم لعبارة “وما نيل المطالب بالتمني”، التي تزامنت مع “المطالب” المصرية من بريطانيا العظمى، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد استقبل الجمهور غناء أم كلثوم باعتباره تعبيراً عن هذه المطالب، ومن المؤكد أن لحن رياض السنباطي الحماسي كان له دور كبير في هذا الاستقبال، كما أن أم كلثوم تفاعلت مع هذه الحماسة الجماهيرية بأدائها وتكرارها للمقطع عدة مرات. وقد علق محمد عبد الوهاب هذه على هذه الأجواء الفنية غير المسبوقة قائلاً إن “الجمهور يصفق ويهتف لأم كلثوم كأنها زعيمة وطنية لا مطربة”.
وخصص المؤلف المبحث الرابع من كتابه لمدارسة دور أم كلثوم الكبير في الصياغة النهائية للنص الغنائي لقصيدة “الأطلال”، وساق هذه المناقشة تحت عنوان لافت يقول: “أم كلثوم تؤلف الأطلال”، لأن ما فعلته أم كلثوم مع شعر إبراهيم ناجي يتجاوز كثيراً طريقة معالجتها لقصائد شوقي.
في “الأطلال”، مارست أم كلثوم عدة “إجراءات جراحية”، اختيارا، واختصارا، ودمجا، وتقديما، وتأخيرا. أخذت النص المغنى من قصيدتين لناجي ليس من قصيدة واحدة. حولت مقاطع رباعية الأبيات إلى ثلاثيات. غيرت بعض الألفاظ، ليصبح الجمهور أمام نص مغاير، ليس هو ما كتبه ناجي. وقد رصد المؤلف الاختلافات بين النص الأصلي لناجي والنص “المكلثم” رصدا مطولا دقيقا، وتوقف أمام الاختلافات الجوهرية في الاستهلال والسياق والختام، ليخلص إلى أن أم كلثوم نجحت في خلق نص “منطقي” مقنع في بنائه الدرامي.
من المؤكد أن المؤلف خالف ما شاع واستقر عن استعانة أم كلثوم بخبراء الشعر والكلمة لتعديل النصوص التي ترغب في غنائها، وفي مقدمة هؤلاء يأتي أحمد رامي، الذي تواترت الروايات عن دوره في الصياغات النهائية لكثير من القصائد، ومن بينها “الأطلال”.
ويمكن لموافقي المؤلف ومخالفيه أن يصلوا إلى كلمة سواء، بتذكر الجانب المشترك الذي لا يجادل فيه أحد، وهو المسؤولية النهائية لأم كلثوم عن العمل الذي تقدمه بصوتها للجماهير العربية، تلك الجماهير التي كانت تقصد محافل “الست” من دون اهتمام يذكر بالمؤلف أو الملحن.
نجح المؤلف في مناقشة مساحة لم تأخذ الاهتمام المستحق في الكتابات التي تتناول السيرة الفنية لسيدة الغناء العربي، كما استطاع أن يؤصل لترجيحاته المنحازة إلى قدرات أم كلثوم الأدبية بدرجة مقبولة من الموضوعية والتماسك.
لكن من الواضح أن جل اعتماده المعلوماتي كان على مصادر مطبوعة، من دون نظر واستماع متمهل إلى أرشيف تسجيلات كوكب الشرق المتاح والمنشور في مختلف المواقع والمنتديات الموسيقية، وهو ما أوقعه في عدد الأخطاء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، جزمه بأن أم كلثوم لم تغن قصيدة شوقي “مقادير من جفنيك”، وقطعه بأن موسوعة أعلام الموسيقى العربية قد أخطأت بذكر القصيدة ضمن قائمة أغاني السيدة، والصواب أن أم كلثوم غنتها، وتسجيلها متاح منشور منذ أكثر من 15 عاما، وقد بثته الإذاعية مشيرة كامل في برنامجها الشهير “من تسجيلات الهواة”، نقلا عن السيدة عبدية عبد الله، الصديقة المقربة جدا من أم كلثوم، والمشتهرة بحيازتها لعدد من أهم التسجيلات القديمة لكوكب الغناء.
كما تضمن الكتاب أخطاء كبيرة في تواريخ غناء بعض القصائد، وفي مقدمتها “سلوا كؤوس الطلا” و”إلى عرفات الله”. لكن لم يكن لهذه الأخطاء أثر جوهري على الفكرة الأساسية للكتاب، الذي يمثل بالفعل إضافة مهمة لكتابات السيرة الفنية لكوكب الشرق.