مراجعة نقدية تكشف تحولات السينما الأمريكية تجاه “أحداث 11 شتنبر”
لعبت السينما الأمريكية في السنوات الأولى من أحداث 11 شتنبر دورا كبيرا في تعبئة الجمهور العام لدعم السياسة الأمريكية، مهما كانت أدواتها، طالما وضع عليها صك “محاربة الإرهاب”. فسواء بقصد أو من دون قصد، صنعت أفلام هوليود “عدوا” ملموسا أمام الجماهير متمثلا في الشعوب الإسلامية والشرق أوسطية، لتصب غضبها نحوه، وفي المقابل نأت بالأجهزة الأمريكية عن تحمل أي مسؤولية وعظمت من دور البطل الأمريكي الذي يحارب الإرهاب، هذا التهديد الذي يستهدف الشعب الأمريكي.
وقد وظفت الولايات المتحدة بدورها هذه اللحظات الاستثنائية لاتخاذ سياسات وتحركات لم يتم دعمها من قبل، على رأسها شن الحرب على العراق؛ فقد أدى التركيز على الواقعة في عدد كبير من أفلام هوليود إلى إضفاء الشرعية بصورة أو بأخرى على تحركات الولايات المتحدة، حتى وإن بدت غير منطقية.
الولايات المتحدة تعي وتجيد تماما تفعيل دور السينما كواحدة من أهم أدوات القوى الناعمة. فلم يفت السينما الأمريكية أن تلعب دورا محوريا في التأثير على الوعي الجمعي داخل وخارج الولايات المتحدة من خلال الزوايا التي تناولت منها أحداث الحادي عشر من شتنبر وتداعياتها.
وعلى الرغم من ذلك التأثير الذي استمر على مدار السنوات الأولى التالية لأحداث شتنبر، تحولت طريقة تناول السينما الأمريكية للحادثة ذاتها، وظهرت سلسلة من الأفلام تنتقد وتفند الإجراءات الأمريكية التي تم اتخاذها في إطار “محاربة الإرهاب”، وأصبحت النقاشات والجدالات أكثر ميلا نحو تحميل جزء كبير من المسؤولية للجانب الأمريكي، وتشكك في التوظيف الأمريكي للحدث لتمرير سياسات وقرارات لم تكن لتمر سابقا.
وفي إطار مرور أكثر من عقدين على أحداث 11 شتنبر، تتناول المقالة الحالية دور السينما الأمريكية في التأثير على الرأي العام وكيف تم توظيفها من جانب الحكومة الأمريكية، فضلا عن التحولات التي طرأت على تناول السينما لأحداث 11 شتنبر بعد عدة أعوام من الحادثة، استجابة إلى النقد الذي تمت إثارته في المجال العام الأمريكي حول جدوى السياسات الأمريكية والإجراءات التي تم اتخاذها تحت مسمى “الحرب على الإرهاب”.
سردية الضحية والمنتقم
ركزت الأفلام التي ظهرت خلال السنوات القليلة الأولى التي تلت الأحداث على تعظيم “دور الضحية” والتأكيد على بسالة الجندي الأمريكي وأهمية التدخل العسكري لمحاربة التهديدات التي تواجه الشعب الأمريكي. وذلك كما ظهر في فيلم سقوط الصقر الأسود (Black Hawk Down)، إنتاج يناير 2002، حول بطولة كتيبة من الجنود الأمريكيين في الصومال في مواجهة مجموعات مسلحة شديدة الخطورة. كما تم استغلال تلك الفترة التي تعاطف فيها الجميع مع البطل الأمريكي لتحسين صورة الموقف الأمريكي في “حرب فيتنام”، وذلك كما ظهر في فيلم “كنا جنودا” (We were soldiers)، إنتاج مارس 2002، حول معركة كبرى في المرحلة الأولى للحرب الأمريكية في فيتنام، وكذلك تهيئة الشعب لخوض الولايات المتحدة حربا جديدة ضد العراق في إطار محاربة الإرهاب.
وهو ما جاء متماشيا مع اتجاهات الرأي العام داخل الولايات المتحدة؛ إذ كان هناك اتفاق كاسح حول حتمية الحرب، تجلى في تصويت الكونغرس بأغلبية كبيرة لصالح قرار الحرب الذي روجت له إدارة بوش بشدة وسط تأييد شعبي عارم بسبب حالة الذعر الجماعي التي عاشها الشعب الأمريكي. حيث عانى البعض منهم اضطرابات نفسية واضحة رصدتها بعض الدراسات على نحو التالي: إن 7.5% من سكان نيويورك و20% من هؤلاء الذين كانوا بالقرب من مبنى التجارة وقت وقوع الأحداث عانوا أعراض (PTSD) “Post-Traumatic stress Disorder”، وهو اضطراب ما بعد الصدمة، وفي الأسابيع التالية لشتنبر 2001، 5% من الأطفال والكبار الذين تابعوا تغطية الأحداث عانوا المرض نفسه و18% من الأطفال و10.7% من الكبار ظهرت عليهم بعض أعراض المرض فقط.
في هذا السياق وأمام شعب يعاني هذه الأزمات النفسية ولديه الحاجة للشعور بالأمان، لاقت دعوات الإدارة الأمريكية لضرورة التماسك والالتفاف حول الهوية الوطنية صدى لدى الأمريكيين، وكأن الوطنية وحب الوطن أصبح علاجا جماعيا في ظل حالة من الاضطراب الجماعي. كما ساعد الخطاب السائد على تأجيج مشاعر الغضب وتعظيم الرغبة في الانتقام والتركيز على وجود كارثة حقيقية تهدد أمن الأمريكيين ونمط حياتهم. عكست السينما الأمريكية ذلك في أفلام تناولت أحداث الحادي عشر من شتنبر مباشرة مثل فيلم “United 93″، إنتاج عام 2006، الذي يحكي قصة الطائرة الوحيدة التي لم تصب هدفها بعد مواجهة دامية بين الإرهابين وركاب الطائرة.
كما أن هناك أفلاما أخرى قد تبدو قصصها بعيدة عن الأحداث مباشرة لكنها تؤكد الخطاب ذاته، ولا يمكن فصلها عن سياقها، مثل فيلم “Spider man”، إنتاج عام 2002، الذي جاء بتأكيد واضح على قوة النزعة الوطنية وضرورة التمسك بالهوية الأمريكية. نجد أن البطل الرجل العنكبوت ذا القوة الخارقة يترك أحلامه الخاصة ويكرس نفسه للدفاع عن بلاده، فنجده يجوب أنحاء نيويورك ليطمئن على الجميع. كما جاءت جملة واضحة في الفيلم لتشير إلى الأحداث “هذه نيويورك، إذا قررت العبث مع أحد منا فأنت تعبث معنا جميعا”. مثال آخر فيلم “War of the worlds”، إنتاج عام 2005، الذي يتناول هبوط كائنات من الفضاء دمرت كل شيء، في محاكاه لما حدث في الحادي عشر من شتنبر، وهو ما أكده مخرج الفيلم ستيفن سبيلبرج (Steven Spielberg): “أكثر الصور التصاقا بذاكرتي من 11 شتنبر هي فرار الجميع من مانهاتن عبر جسر جورج واشنطن، إنها صورة مؤلمة لم أنجح أبدا في إبعادها عن مخيلتي. إن الفيلم يتعلق بكل تأكيد بفرار الأمريكيين للنجاة بأرواحهم وتعرضهم لهجوم، دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عن سبب الهجوم أو منفذيه”.
انتقاد التوظيف السياسي
مع تطور الأحداث، تم شن حرب في أفغانستان وأخرى في العراق بسبب ادعاء إدارة بوش وجود أسلحة دمار شامل بها، وهو ما ثبت أنه غير حقيقي، وأدى إلى تكبد الاقتصاد الأمريكي خسائر فادحة، إضافة للخسائر النفسية والبشرية والسياسية والاقتصادية في الداخل والخارج.
في هذا السياق، بدأت الأفلام في البعد عن الغلو في الخطاب الوطني وتبنت رؤى نقدية. من أبرز تلك الأفلام، فيلم “سيريانا” (Syriana)، إنتاج عام 2005، المأخوذ عن كتاب “القصة الحقيقية لجندي ميداني في حرب الاستخبارات الأمريكية على الإرهاب”، وهو عبارة عن يوميات وضعها عميل الاستخبارات السابق روبرت بير. ينتقد الفيلم الإدارة الأمريكية بشدة، حيث يشرح كيف أن النفط والسيطرة عليه كانا الدافع الأساسي خلف السياسة الخارجية الأمريكية.
كذلك فيلم “أسود وحملان” (Lions for Lambs)، إنتاج عام 2007، الذي صور فشل سياسات القوات الأمريكية، وكيف يدفع صغار الشباب ثمن طموحات السياسيين وسياساتهم الفاشلة، إلى جانب توظيف الشركات الإعلامية الكبرى لخدمة هذه المصالح. ويناقش الفيلم مفهوم الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 شتنبر، وما تلا ذلك من غزو أفغانستان واحتلال العراق.
بحلول عام 2007 كانت موجة الأفلام التي تنتقد النظام الأمريكي في صعود واضح، ومن أبرزها فيلم “ستكون هناك دماء” (There will be Blood)، وهو يجسد جذور الطمع والعنف في النظام الرأسمالي البطرياركي المدعوم بثنائية الدين والعائلة، في إطار دراما تاريخية تحاول أن تشرح جذور الأزمة المتجذرة في المجتمع الأمريكي في قلب معتقداته ومؤسساته، مقدما بذلك نقدا لما بعد 11 شتنبر.
كما جاء فيلم “دابليو” (W)، إنتاج عام 2008، ليقدم نقدا مباشر للإدارة الأمريكية عن طريق تناول قصة حياة الرئيس الأمريكي بوش، مسلطا الضوء على حياته الشخصية وجراح طفولته وتأثير ماضيه على أدائه كرئيس واتخاذه هو وإدارته سلسة من القرارات أدت إلى نتائج ذات آثار بالغة على الخارج والداخل الأمريكي. ويتوافق هذا الطرح الذي تبناه الفيلم مع الرأي العام في هذه المرحلة. فقد أقام مركز غالوب استطلاعا حول نسبة رضا المواطنين نحو حكومتهم، وجاءت نسبة الرضا في الولايات المتحدة 34% بعد كل من ألمانيا والاتحاد الأوروبي والصين، وذلك في عام 2008، بنهاية حكم بوش. أما داخليا، فقد أصدرت “سي بي إس نيوز” (CBS News)، القناة الأمريكية، نتائج استطلاعات للرأي حظي فيها بوش بـ 20% فقط كنسبة رضا شعبي.
مراجعة الذات: الثابت والمتغير
يمكننا أن نستخلص من أفلام تلك الحقبة-حتى نهاية فترة حكم بوش-الملامح الرئيسية لصورة الذات والآخر كما رسمتها السينما الأمريكية، فنجد أنه في السنوات الأولى اتسمت صورة الإدارة الأمريكية بالرشادة والانضباط، حيث لم يكن المجتمع مستعدّا للخطاب النقدي وكان مستغرقا في الشعور بالألم، كما ساعدت تلك الأفلام الدولة في حربها المزعومة على الإرهاب. مثال على ذلك ما جاء في نهاية فيلم “مركز التجارة العالمي” (The World Trade center)، إنتاج عام 2006، الذي تضمن بشكل غير مباشر تبريرا للحرب من خلال تناول قصة معاناة شرطيين أمريكيين ظلا عالقين تحت الركام أثناء قيامهما بإنقاذ ضحايا برجي التجارة. وجاءت الحرب كما قدمها الفيلم كرد فعل على هجمات الحادي عشر من شتنبر، حيث ظهرت الإدارة الأمريكية بمظهر صارم ومنضبط ومنغمس في توحيد الولايات المتحدة لخوض معركة ضد الإرهاب، وهي بالضبط الصورة التي أرادت إدارة بوش إظهارها.
على النقيض، تجلت ملامح الكذب والخداع كسمة مميزة للإدارة الأمريكية في الأفلام التي تلت تلك المرحلة، فعلى سبيل المثال، فيلم “المرشح المنشوري” (The Manchurian Candidate)، إنتاج عام 2004، الذي تدور قصته حول قيام بعض الجهات زرع آلة صغرى في أجسام الجنود، تسمح بالتحكم في أفكارهم وأفعالهم وتضليلهم من أجل خدمة مصالح الإدارة السياسية، في إسقاط واضح على إدارة بوش.
ارتباطا باستخدام الأكاذيب لتحقق الإدارة الأمريكية أهدافها، لجأت أيضا إلى انتهاك الحقوق والحريات، أي اتسمت بكونها إدارة قمعية. وهو ما تناوله فيلم “ڤي رمز للثأر” (V for Vendetta)، إنتاج عام 2005، الذي جسد التعدي على الحريات المدنية بحجة الحماية العامة من خطر الإرهاب، حيث قامت الحكومة بالتنصت على التليفونات ومراقبة البريد الإلكتروني، بل وتاريخ التصفح على الإنترنت، ونشر سياسات الترويع للحصول على مزيد من القوة كما يوضح الفيلم.
أما أكاذيب الإدارة الأمريكية حول حرب العراق فقد خصصت لها أفلام تناولت نتائجها الكارثية، وإن كانت أبرز تلك الأفلام قد ظهرت بعد مرور سنوات من رحيل بوش، مثل فيلم “المنطقة الخضراء” (Green Zone)، إنتاج 2010، وفيلم “اللعبة العادلة” (Fair game)، إنتاج العام ذاته، وغيرهما، إلا أنه قد ظهرت أفلام تقدم الصورة ذاتها لإدارة بوش أثناء فترة حكمه، منها فيلم “كتلة أكاذيب” (Body of lies) عام 2008، المأخوذ عن كتاب للصحافي الأمريكي دايفيد إيغناتيوس (David Ignatius) الذي عمل فترة طويلة لدى “واشنطن بوست” في التغطية الصحافية لشؤون المخابرات المركزية الأمريكية والشرق الأوسط. يتناول الفيلم عمليات “سي آي إيه” وكيفية إدارتها في إطار ما سمى بالحرب على الإرهاب.
على العكس، جاءت صورة المواطن والجندي الأمريكي متسمة بالإيجابية في معظم الأفلام. حيث تم تصوير الأمريكيين على أنهم مترابطون ومتحملون المسؤولية رغم ما تكبدوه من خسائر، مما يعزز النظرة الإيجابية لهم كما جاء في عدة أفلام، منها “متحدون 93” (United 93) حيث رأينا المواطنين يقاومون الإرهابيين وقد نجحوا في جعل الطائرة تسقط من دون أن تصيب هدفها رغم أن الثمن كان حياتهم؛ إذ ماتوا جميعا مع سقوط الطائرة، لكنهم حالوا دونما نتائج أكثر كارثية لو أن الطائرة كانت قد أصابت هدفها. كما ركزت أفلام أخرى على مرارة المواطنين الذين فقدوا أحباء بسبب الإرهاب، مثل فيلم “رحلت غرايس” (Grace is gone)، إنتاج عام 2007، الذي يتناول قصة أب لا يعرف كيف يخبر ابنتيه الصغيرتين بأن أمهما المجندة في الجيش الأمريكي قتلت في العراق. كما أوضح فيلم “وادي إيلاه” (In The Valley of Ellah)، إنتاج عام 2007، أن حرب العراق دمرت الداخل الأمريكي، وأن الأمريكيين ضحايا سياسات إدارتهم.
واقترن تصوير المواطنين الأمريكيين كضحايا بتصويرهم كأبطال في مواجهة خطر الإرهاب من ناحية، ومواجهة سياسات إدارتهم التي أضرت بهم من ناحية أخرى. فنلاحظ أنه حتى أكثر الأفلام التي انتقدت سياسات الإدارة الأمريكية بشدة، انتصرت في الوقت ذاته للمواطن وللجندي الأمريكيين.
أما صورة الآخر، فقد ارتكزت على تسليط الضوء على الإرهابيين الذين مثلوا بالطبع قوى الشر واستخدموا الدين لتبرير جرائمهم. وقد اتسمت صورة المواطن العربي غير الإرهابي في مجملها-في الأفلام السالف ذكرها-بالفقر والجهل والتهميش في إطار قصص ترتكز في غالبيتها على الصراع مع الإرهابين كفاعل رئيسي، مما حصر في الأذهان صورة العربي في هذا الإطار.
يمكننا إذن القول إن السينما الأمريكية في فترة حكم بوش لعبت دورا كبيرا في كيفية استقبال المشاهد للأحداث. كما لعبت أيضا دورا في التأثير على سلوك الجماهير على المستوى الداخلي عن طريق تكريس حالة الخوف وأهمية التضامن والتوحد خلف الإدارة الأمريكية للقضاء على قوى الشر المتمثلة في الإرهاب، ولكنها وعلى النقيض لعبت أيضا دورا في تنمية الوعي بمساوئ سياسات تلك الإدارة.
أما على المستوى الخارجي، فقد لعبت السينما دورا محوريا في إدارة الولايات المتحدة لصراعاتها وفقا للصور النمطية التي قدمتها ورسختها عن الذات والآخر. فمن ناحية، قدمت بعض الأفلام صورة إيجابية للإدارة الأمريكية تبرر بها سياساتها وقراراتها. ومن ناحية أخرى، انتقدت بعض الأفلام هذه الإدارة بصورة توحي بمدى ديمقراطية المجتمع الأمريكي مع الحفاظ على صورة المواطن والجندي المتسمة بالبطولة والنبل والشجاعة.
بذلك، استطاعت الولايات المتحدة أن ترسم لذاتها صورة إيجابية تترسخ في وجدان المشاهدين وتجعلهم-وإن اختلفوا مع سياساتها-لا يسعهم إلا أن يحملوا لها قدرا من الإعجاب بشكل واع أو غير واع. كما أن تلك الأفلام تعد في حد ذاتها وثائق تاريخية تسمح للمشاهد بالولوج إلى تلك الحقبة من الزاوية ووجهة النظر الأمريكية.