تمر العلاقات المغربية ـ الفرنسية بأزمة صامتة بدأت نهاية عام 2021 عندما أعلنت باريس أنها ستخفض عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين المغاربة بنسبة 50%، بسبب ما اعتبرته رفض الرباط إعادة مواطنيها الموجودين على الأراضى الفرنسية بطريقة غير مشروعة.لم يقتصر رفض منح التأشيرات على السياح المغاربة والطلبة، بل شمل،أيضا، وزراء سابقين وبرلمانيين وفاعلين اقتصاديين؛ فى وقت هناك حديث عن رفض أزيد من 70%من طلبات التأشيرة المقدمة من مغاربة.
لا يبدو أن أزمة التأشيرات هى الوحيدة بين الرباط وباريس، بل هناك خلافات صامتة طفت على السطح، خاصة بعد الاعتراف الأمريكى بمغربية الصحراء. حاولت الرباط إقناع السلطات الفرنسية باتباع المسار الامريكى، لكن قوبل ذلك بتحفظ فرنسى، على الرغم من ان باريس كثيرا ما دافعت عن الموقف المغربى فى مجلس الأمن.
وقد ادى استقبال البرلمان الفرنسى، فى خطوة استفزازية للرباط، وفدا تابعا لجبهة البوليساريو الانفصالية، الى تفاقم الأزمة أكثر. هذه الخطوة جاءت بعد خطاب للملك محمد السادس، أكد فيه أن قضية الصحراء المغربية، هى النظارة التى ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو الملف الذى يقيس به المغرب صدق الشراكات. وسيسهم الفراغ الدبلوماسى الفرنسى فى العاصمة المغربية، عقب تغيير السفيرة الفرنسية التى ستغادر الرباط آخر سبتمبر، من إخراج هذه الأزمة من مساحتها المكتومة إلى العلن.
لم تتوقف الأزمة عند الجانب الدبلوماسى، بل طالت الجانب الاقتصادي. من ناحية، أدى التوجه المغربى الجديد؛ حيث تعمل المملكة على تنويع شركائها، من خلال التوجه نحو الصين وروسيا وأمريكا وغيرها،وتنويع أسواق أسلحتها واتفاقياتها العسكرية؛ الى تراجع وزن فرنسا فى المغرب بشكل تدريجي.هذا التراجع جعل باريس متخوفة من ضياع موقعها فى المغرب ومنطقة المغرب العربي. ما يعمق من هذا التخوف هو التقارب المغربى الإسبانى الألمانى بعد تغير موقف البلدين من قضية الصحراء، وتجاوزهما الموقف الفرنسى الذى يبقى غير واضح. اليوم باتت إسبانيا تحتل المركز الأول كشريك تجارى للمغرب، بدلا عن فرنسا.
من ناحية ثانية، كان المغرب الوجهة الأولى للاستثمارات الفرنسية فى إفريقيا، عبر أكثر من 950 فرعا لشركات فرنسية توفر نحو 100 ألف فرصة عمل.اليوم، ينافس المغرب بشكل كبير التغلغل التاريخى لفرنسا فى إفريقيا، ويقوم بتسهيل دخول العديد من الدول الحليفة له، والتى تربطه بها علاقات تجارية، من أجل الاستثمار فى القارة السمراء. هذا الامر تعتبره باريس سهما موجها لها، خاصة انها تعتبر افريقيا وخيرات المستعمرات الفرنسية السابقة حقا من حقوقها. وكنتيجة لتضارب المصالح بين البلدين، بدأت شركات فرنسية فى الانسحاب من السوق المغربية.
فى خضم الازمة مع الرباط، قام الرئيس الفرنسى بزيارة للعاصمة الجزائر فى آخر أغسطس الماضي. فى سياق أزمة الطاقة فى أوروبا جراء الحرب الاوكرانية، يأمل الإليزيه فى الحصول على الغاز الجزائرى الذى يمكن أن يحل جزئيا محل غاز روسيا. لتحقيق هذا الهدف تروج فرنسا لشراكة استراتيجية وأمنية، صعب ان تتحقق مع الجزائر (لأسباب عديدة لا يسع هذا المقال لذكرها)، على الرغم من ان هذه الاخيرة تشترك على التوالى فى 1329 و951 كيلومترا من الحدود مع مالى والنيجر، حيث تدافع فرنسا عن مصالحها الحيوية فى مجال استخراج اليورانيوم، وحيث تسعى أيضا لمواصلة حربها ضد الارهاب. من خلال الترويج لهذه الشراكة تحاول باريس إيجاد مخرج لمشكلة الطاقة وإيجاد شراكات أمنية جديدة، لكن ايضا ممارسة نوع من الضغط على المغرب.
ليس هناك، الى الآن، أي موقف رسمي من البلدين بخصوص الازمة بينهما، بل هناك حديث عن زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسى للرباط خلال الشهر القادم. وسواء تمت هذه الزيارة ام لم تتم، فما يميز العلاقات المغربية الفرنسية، على مدار التاريخ، أنها كانت وستبقى علاقات ود وخصومة فى الوقت ذاته. فكلما تم تهديد المصالح الاقتصادية الفرنسية فى المغرب، استعملت باريس أوراقا ضد الرباط من أجل الضغط عليها. وفى هذه الازمة، أيضا، وبعد ممارسة كل الضغوطات الممكنة، سيجد البلدان صيغا لتجاوز خلافاتهما واحترام تاريخهما المشترك ومصالحهما المشتركة. باريس تعلم أن لها مصالح استراتيجية فى المغرب يصعب تجاهلها او تغييرها لفائدة شركاء جدد فى المنطقة، والمغرب يعتبر فرنسا شريكا تاريخيا. هذه الشراكة التاريخية ستحول حتما دون ذهاب مسار العلاقات بين البلدين إلى القطيعة.
فرنسا تتبنى موقفا ضبابيا في نزاع الصحراء الغربية، بعدما كانت حتى الأمس القريب أكبر داعم لمقترح الحكم الذاتي، الذي تقدم به المغرب حلا للنزاع.
في المقام الأول، لا يمكن لفرنسا تفضيل المغرب دائما على الجزائر في منطقة المغرب العربي لأن فرنسا تبحث عن مصالحها، خاصة في وقت تحولت فيه الطاقة إلى محدد رئيسي لجودة العلاقات الثنائية بين الدول، وتتوفر الجزائر على الغاز والبترول، كما تسعى الشركات الفرنسية إلى التموقع مجددا في السوق الجزائرية، بعدما فقدتها لصالح الصين وتركيا وإيطاليا.
في المقام الثاني، لم تعد في فرنسا طبقة سياسية لديها ارتباط وثيق بالمغرب، تتولى الحديث باسم مصالحه في العاصمة باريس وتدافع عن أجندته في المقام الأول، لا يمكن لفرنسا تفضيل المغرب دائما على الجزائر في منطقة المغرب العربي لأن فرنسا تبحث عن مصالحها، خاصة في وقت تحولت فيه الطاقة إلى محدد رئيسي لجودة العلاقات الثنائية بين الدول، وتتوفر الجزائر على الغاز والبترول، كما تسعى الشركات الفرنسية إلى التموقع مجددا في السوق الجزائرية، بعدما فقدتها لصالح الصين وتركيا وإيطاليا.
في المقام الثاني، لم تعد في فرنسا طبقة سياسية لديها ارتباط وثيق بالمغرب، تتولى الحديث باسم مصالحه في العاصمة باريس وتدافع عن أجندته وتسعى إلى حل الأزمات. إذ من الصعب ظهور رئيس يتعاطف بشكل كبير مع الرباط كما كان الشأن مع الرئيس الراحل جاك شيراك. في الوقت ذاته، عجز المغرب على نسج علاقات مع الطبقة السياسية الجديدة، سواء في اليمين أو اليسار.
في المقام الثالث، ضرورة إبقاء المشاكل التي تطفو على السطح في إطارها الحقيقي، والبحث عن حل لها بعيدا عن التأويلات صعبة القبول، ومنها وجود مؤامرة فرنسية ضد المغرب لا يمكن للمغرب منح فرنسا الأفضلية التامة والدائمة في المجال الاقتصادي، ومنها منح الخط الثاني الخاص بالقطار السريع الرابط بين مدينة مراكش وأكادير جنوب البلاد، بل من حقه البحث عن شركاء جدد للحفاظ على مصالحه، خاصة مع الدولة الصاعدة الصين التي تريد تشييد خط القطار السريع. وبعبارة أوضح: المغرب ليس حديقة خلفية دائمة لفرنسا اقتصاديا.