اليمين المتطرف يركب أمواج التضخم والفوضى لإغراق فرنسا بالأزمات
منذ الأيام الأولى لتدهور الاقتصاد الأوروبي، بدأ اليمين المتطرف يصعّد خطابه راكباً موجة السخط الشعبي الناجم عن انهيارات اليورو.
وكما كان اليمين حاضراً في جولات المعارك البرلمانية الأوروبية حول ملف دعم الحرب الأوكرانية، وخطط لإفساد فعاليات مونديال قطر عبر مواجهات مع المشجعين العرب، أخذ اليمين المتطرف دوره التحريضي والتخريبي خلال الأزمة الاقتصادية الأعنف التي تواجهها أوروبا.
وبين زج أنصاره في مظاهرة هنا، وتجنيد أصواته البرلمانية لإفشال السياسات الاقتصادية هناك، يبدو أن المناخ الأوروبي يستشعر تمدد اليميني المتطرف الذي يشكل تهديداً على مستوى الدول والاتحاد ككيان.
استغلال غليان الشارع
في فرنسا التي تكابد في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها المعاصر، لعب الاستياء الاقتصادي دوراً حاسماً في صعود اليمين المتطرف الذي وجد في أزمة الطاقة والتضخم فرصة ذهبية وأرضا خصبة لإثارة الكراهية بين مكونات الشارع الفرنسي.
وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة بوردو الفرنسية، يانوش ماريان، لـ”إرم نيوز”: “مع اشتداد حدة الأزمات الاقتصادية في البلاد، نشطت حركات اليمين المتطرف لاغتنام فرصة المناخ اليائس المتنامي في الشارع الفرنسي ونشر الكراهية”.
وأضاف ماريان: “يحقق اليمين ذلك عبر الطعن بالقوى السياسية الداعمة لملف الهجرة والمهاجرين وتحميلها الوزر الأكبر في تردي الأوضاع الاقتصادية، كونها فتحت الباب أمام هؤلاء الغرباء حسب تعبيرهم، وتحميل البلاد نفقات إيوائهم”.
وتابع: “أصبحت الهجرة واحدة من أكبر مخاوف الكثير من الناس في فرنسا، وهذا الخوف أشعله أنصار اليمين المتطرف التي عرف عنها على مر التاريخ استغلال الأزمات الاقتصادية العالمية وانعدام الأمن الغذائي وارتفاع أسعار الوقود”.
وبحسب ماريان، وجدت حركات اليمين أمامها شارعاً متذمراً من أحواله المعيشية، وحالة استياء من الأنظمة السياسية والقادة الحاليين، فقامت بتأجيج هذا الشرخ وتعزيزه عبر خطاب الكراهية ونشر الأفكار المسمومة بحق المكونات الأخرى وزيادة الفوضى.
واستطرد: “للأسف، قريبا سنطلب من العرب الموجودين في فرنسا تحضير حقائبهم أو توابيتهم”، مشيرا إلى أن رجلا عربيا وجد تهديدات عنصرية على باب منزله في مدينة ليون، والتي تعتبر الأكثر تهديداً بالعنصرية بسبب عدة أحداث وقعت فيها.
وهنا علّق ماريان: “هذا ما أنتجه اليمين المتطرف، بدلاً من الأخذ بيد الحكومة والبرلمان نحو إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية، كونه طرفا له حصة برلمانية كبيرة وبالتالي هو شريك في القرار وفي انتهاج الحلول”.
وقال: “لا بل تقوم أحزابه بعرقلة القرارات الاقتصادية التي من الممكن أن تنقذ البلاد، كي يثبتوا للعالم فشل الرئيس وكتلته البرلمانية وضرورة تغيير الحكومة”.
وأثبتت دراسة بحثية حديثة أجراها مانويل فونك وموريتز شولاريك وكريستوف تريبيش بشكل مثير للإعجاب، الصلة بين الأزمات المالية واليمين المتطرف.
ودرس المؤلفون أكثر من 800 انتخابات في 20 دولة أوروبية في القرنين الأخيرين، ووجدوا أنه بعد كل أزمة مالية كان هناك عدم استقرار سياسي واستقطاب لليمين، ونتيجة لذلك يشعر الناخبون بالانجذاب بشكل خاص إلى اليمين المتطرف.
بدوره، قال الكاتب والمحلل السياسي نزار الجليدي لـ “إرم نيوز”: “لم يتوانَ اليمين المتطرف منذ وصوله إلى مجلس النواب وعبر أنصاره على الأرض عن محاولات زعزعة الوضع السياسي الفرنسي واستغلال أزمة التضخم وحالة الفقر والجوع الموجودة الآن”.
ويرى الجليدي أن “الواقع الفرنسي اليوم زاخم في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وهو يحتاج لشرارة صغيرة حتى يشتعل، خاصة أن الحكومة الحالية تعمل بالأوامر والقرارت ولا تعمل مباشرة بالتشريع النيابي، عكس ما كانت تعيشه فرنسا دائماً”.
واعتبر أن “اليمين المتطرف أصبح يحاول أن يمسك بعصا اللعبة في الوسط من خلال الوضع الاقتصادي الهش لفرنسا، ويناور بشكل وبآخر للضغط على الحكومة في عدة مسائل سياسية واقتصادية”.
وعن دور اليمين في زعزعة الأوضاع الفرنسية، ذكر الجليدي أن”اليمين المتطرف يعطل العمل البرلماني الفرنسي، وهو المسؤول عن هذا التخبط في القرارات والسياسات الفرنسية، لأن البرلمان الحالي يترنح بين يسار قوي ويمين متطرف وقوي، أما كتلة الرئيس فتبقى هي الأضعف ولا تستطيع أن تمرر أي قرار دون مناورات وتفاهمات”.
لا يقتصر الأثر الذي لمسه الفرنسيون اليوم على التعطيل البرلماني والمراهنة على المشاعر المناهضة للهجرة، وإثارة المشاعر القومية والتفوق الأبيض، وإنما تأثرت بعض الأعمال التجارية بالمد اليميني القائم على إقصاء الآخر حتى وإن كان يحمل الجنسية الفرنسية، وإضفاء نوع من الشرعية على العنصرية.
وهنا قال ماريان: “أصبح هناك نفس يميني في التعامل التجاري والتوظيف يتجلى في إقصاء الفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية، نتيجة التأثر بالأفكار المسمومة التي تقول إن هؤلاء يسرقون قوت البلاد”.
وتابع: “لا يمكن إنكار حقيقة وجود شريحة كبيرة تؤيد اليمين، وجزء منها يصفّق للمتطرف، وهؤلاء يظنون أن أي فرنسي من أصول أجنبية هو مسؤول عن أزمة الطاقة والتضخم وطمس العرق الفرنسي الأصيل، وبالتالي إقصاؤه أمر مباح، وهذه جميعها مؤشرات تنذر بانفجار الوضع”.
أما الجليدي فيرى أن “اليمين نجح في استغلال هذا الواقع، وتمكن من ركوب أي حدث سياسي أو اقتصادي أو أمني، لتنفيذ مخططه الذي لن يجلب للبلاد سوى الخراب وعدم الاستقرار”.
وأشار استطلاع جديد نشرته صحيفة “لوفيغارو” إلى أن فرنسا تشهد تحولاً سياسياً واجتماعياً، إذ تتجه أكثر فأكثر نحو اليمين لا بل اليمين المتطرف، على صعيد السلطة، وشعبياً أيضاً.
ويشير الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة “الابتكار السياسي” بالاشتراك مع مركز البحوث السياسية إلى أن الفرنسيين يميلون أكثر فأكثر إلى اليمين، ويتبنون اجتماعياً واقتصادياً أكثر الأفكار والقيم اليمينية.