العقدة التركية وحلف الناتو
أدت سنوات من تجاهل مصالح تركيا وهواجسها الأمنية إلى خلق حالة من انعدام الثقة لديها بالغرب. فاستمرار الدوران في حلقة مفرغة في العلاقات التركية الغربية، والتركية الأميركية على وجه الخصوص، لن يؤدي إلى سوى تعميق هذه الحالة ودفع أنقرة إلى مواصلة التغريد بعيدا عن الفضاء الغربي
مع ذلك، فإن هذا الرهان قد لا يكون صائبا تماما، خصوصا إذا فاز أردوغان في الانتخابات. إن المسألة بالنسبة لتركيا وأردوغان شخصيا لا تتعلق بافتعال أزمة مع الغرب في قضية مصيرية من أجل جذب الانتباه فقط بقدر ما هي فرصة لدفع الغربيين إلى الإنصات للهواجس الأمنية التركية والتعامل معها بجدية. لذلك، من غير المرجح أن يتحول موقف أردوغان بسرعة بعد الانتخابات إذا لم ير خطوات واضحة من السويد تحقق المطالب التركية.
في الواقع، منحت قضية توسيع الناتو تركيا ورقة قوية لفرض قائمة مظالمها على شركائها الغربيين، بما فيهم واشنطن التي لديها علاقة قوية بوحدات حماية الشعب الكردية الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني.
منذ بداية أزمة توسيع الناتو، فضلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مراقبتها عن بعد، وآثرت عدم التدخل لتجنب الدخول في مساومة مع أنقرة على قضايا أخرى، لكنها ارتكبت خطأ في هذا النهج، وتسببت في هدر مزيد من الوقت لمعالجة هذه القضية، وأفسحت المجال أمام العوامل الأخرى التي تعمل على إفساد العلاقات بين أنقرة والغرب.
بيد أن واشنطن أدركت متأخرة خطأ الرهان على إنجاح المفاوضات من دون حاجتها إلى التدخل وتقديم تنازلات لأنقرة. قبيل زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الأخيرة إلى واشنطن، سرب مسؤولون أميركيون لصحيفة “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) عرضا لأنقرة بتسهيل بيعها مقاتلات “إف-16” (F-16) مقابل مصادقة برلمانها على انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، لكن توقيت العرض لم يكن ملائما بأي حال من الأحوال بالنسبة لتركيا، كما أنه ليس كافيا لها.
لقد سبق أن وعدت واشنطن أنقرة ببيعها هذه المقاتلات قبل بروز قضية توسيع الناتو، وبالتالي، فإنه من واجب الولايات المتحدة الوفاء بهذا الوعد بدل تحويله إلى ورقة للضغط عليها في ملف الناتو. كما أن أنقرة تريد من الولايات المتحدة التخلي عن علاقتها بالوحدات الكردية، والاعتراف بأن هذه العلاقة تشكل خطرا على حليف حيوي ومهم في الناتو لا يقل عن الخطر المتصور من جانب روسيا على السويد وفنلندا. لسوء الحظ، لا تزال واشنطن تفتقر إلى البصيرة الإستراتيجية الكافية لإدراك أن العلاقة مع الوحدات الكردية والتخلي عن نهج التوازن بين تركيا واليونان يعملان على إضعاف شراكة إستراتيجية مع أنقرة تمتد لعقود طويلة.
يؤدي رضوخ سويدي -في نهاية المطاف- للمطالب التركية أو مرونة تركية إلى إنهاء أزمة توسيع الناتو، لكن المشكلة الأكبر المتمثلة في تراجع العلاقات التركية الغربية ستستمر. في هذه التحولات التاريخية التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية على أمن حلف شمال الأطلسي، سيتعين على صناع القرار في الغرب التركيز أيضا على معالجة الخلافات مع تركيا بالقدر الذي يتم التركيز فيه على ضم دول جديدة إلى الحلف.
في حين أن تركيا والغرب قررا في السنوات الأخيرة التعايش مع هذه البرودة في علاقاتهما، فإن استمرارها يستنزف قدرات حلف شمال الأطلسي للتكيف بفعالية أكبر مع عصر التنافس الجيوسياسي العالمي الجديد. كما أن تعزيز الجناح الشمالي للحلف بضم فنلندا والسويد لن يعوض الفراغ الذي يحدثه غياب الانسجام بين تركيا وشركائها الغربيين على الجبهة الجنوبية الشرقية للناتو، حيث تتزايد التحديات على الحلف بفعل الدور المتنامي لروسيا في الشرق الأوسط والبحر المتوسط.
بقدر ما أن حرب روسيا على أوكرانيا دفعت الحلف إلى محاولة توسيع حدوده لتعزيز جبهته الشرقية والشمالية وفرضت على الدول الأعضاء في أوروبا العودة إلى سياسات الإنفاق العسكري التي كانت سائدة في حقبة الحرب الباردة، فإنها تذكر كذلك بأن تركيا لا تزال مهمة في تأمين الجناح الجنوبي الشرقي للحلف وبأن إعادة انسجامها المتكامل مع الغرب يشكل مصلحة حيوية للطرفين. إن الطريق إلى ذلك يبدأ أولا في شروع الولايات المتحدة في إعادة تقييم أولوياتها في العلاقة مع تركيا بما يتلاءم مع الوضع العالمي الجديد المضطرب.
لا تزال تركيا ترى نفسها جزءا من الغرب رغم نهج التوازن الذي تتبناه في علاقتها بين الغرب وروسيا، والذي يستند إلى منظور الهامش المتاح للدول الأعضاء في الناتو لتغليب مصالحها الوطنية في بعض الأحيان على مصالح الحلف، بما لا يتعارض مع الهوية الجيوسياسية العامة لتركيا كجزء من المنظومة الأطلسية.
صحيح أن عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان أظهرا عمق الهوة بين أنقرة والغرب مقارنة بالعقود السابقة، إلا أن الاعتقاد الغربي بأن هذه الهوة ستتقلص بمجرد رحيل أردوغان عن السلطة، لا يبدو غير واقعي فحسب، بل يكشف عن سوء فهم غربي لتركيا ومصالحها الوطنية التي لا ترتبط بهوية من يحكمها بقدر ارتباطها بها كدولة قبل كل شيء.