مختبر السرديات يحتفي بتجربة محمد مباركي الروائية أسئلة الهوية وتخييل التاريخ
متابعة: سارة الأحمر
نظم مؤخرا مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء ندوة علمية موسومة بـ”التاريخ والهامش في روايات محمد لمباركي”، وذلك احتفاءً بتجربة هذا الروائي والقاص القادم من المغرب الشرقي، التي تغوصُ في ثنايا المجتمعِ المغربي، وتنبشُ في مآسيه وجراحه، إيمانا منه بأهمية السرد في نقل صوت الذات الفردية والجماعية، ومُساءلة تاريخها وراهنها ومستقبلها.
استُهلَّت الندوة بكلمة مدير مختبر السرديات شعيب حليفي التي عبر فيها عن دور الكاتب محمد مباركي في فتح نافذة جديدة للرواية المغربية، من خلال تجسيده لمتخيلٍ عميق بروح مغربية، يتوغل في العقول والأفئدة بقوة، ويتجاوز التاريخ ليؤسسَ متخيلاً يُصهِرُ المعاناة في الأمل. في هذا المنحى من الطرح والمساءلة، أبرز أستاذ التاريخ القديم ونائب عميد كلية الآداب بنمسيك إبراهيم فدادي في كلمته علاقةَ التاريخ بالأدب، بعدِّه جزءا لا يتجزأ من المصادر التي يعتمد عليها المؤرخ، والتي تغطي النقص الحاصل في تاريخ المجتمعات، كما أشاد بأهمية هاته الندوات في مساءلة الأدب المغربي، والتعريف به.
مهَّدَ للجلسة الأولى الأستاذ بوشعيب الساوري منسِّق أشغال الندوة، مقدما ورقة تعريفية بالكاتب محمد لمباركي، تلاهُ الباحث ياسين المروسي المتدخل الأول بورقة وسمها بـ”سؤال الهوية في رواية جدار لمحمد لمباركي”، معتبرا أن النص الروائي تمثيلٌ لهوية يحاول الكاتب رسم ملامحها داخل فضاء الرواية، ومستجليا آثار الهوية الثقافية من خلال بُعدين: تجسد البعد الأول في ارتباطها بمنظومة القيم باعتبارها تنازعا بين قيم الجماعة والفردانية، تلك القيم المغربية الأصيلة؛ المتمثلة في المحبة والتعاون والتكافل الاجتماعي، وبرزَ البعد الثاني في ارتباطها بالموروث الثقافي المغربي الذي يوثق لطقوس مختلفة من العادات والقيم منها السمر العائلي، وأدوار المرأة داخل العائلة، أو للطقوس المناسباتية مثل طقوس الزواج والجنائز. وقد أبرز الباحث أهمية المكان في الرواية باعتبار “جنان العربي” المكان الحاضن للهوية الثقافية، ولكل هذه القيم وتوارثها.
في هذا السياق من النبش في ثنايا المجتمع وأعرافه، تستحضر ورقة المتدخل الثاني؛ الباحث محمد رحو، المهمش والمهمل في المجتمع، من خلال ورقة اختار لها عنوان “المنسي والمغيب في المجتمع من خلال رائحة التراب المبلل، متوقفا عند واقع مغربي استثنائي يعود زمنه إلى عهد الحماية، منطلقا من ثنائية الهدم/ البناء. إذ تتجلى عملية البناء في وعي الشخصيات بواقعها وتوقها إلى ولادة جديدة، فالروائي وهو يخلق معادلا روائيا لا يقف عند حدود الكائن ولا يخضع لسلطه، بل يسعى إلى تشييد عالم الممكن. وقد استنبط الباحث دعامتين جعلهما مدخلين لورقته، هما: صور الحالات الإنسانية، وبحث الشخصيات عن الولادة الثانية، كما عرج الباحث على تمثلات الفحولة والرجولة في الرواية، وعلى مظاهر استلاب شخصية المرأة وتهميشها التي تجسدها زوجات الفقيه، وكذا إيمان المجتمع بالأساطير والأعراف والتقاليد، معتبرا أن نقل الكاتب لهذه التجارب ما هو إلا دليل على إدراكه للمجتمع ووعيه بتشابكاته الاجتماعية، فتكون بذلك الرواية قد جمعت بين جمالية الشكل وعمق المضمون.
أما ورقة المتدخل الثالث؛ الباحث محمد الدوهو التي ألقاها نيابة عنه بوشعيب الساوري، المعنونة بـ”تحولات المحكي في رواية شروق شمسين”، فقد وقف من خلالها على عنصر المفارقة في عتبة العنوان المركزية، متسائلا: كيف يمكن لشمسين أن تشرقا في الوقت ذاته؟ ليخلص إلى العلاقة التي تجمع بين الشمس والاستعارة، فكلاهما نيرتان متلألئتان. لقد احتمل سؤال الباحث جوابين اثنين: الأول يتعلق بمهجة الشمس في النص، أما الشمس الثانية فهي شمس الكتابة التي تشرق من ظلام النسيان وتستحضر المغيب في الذاكرة، إنها تشرق مثل الشمس لإزاحة الستار عن تاريخ الأندلس.
وبالأندلس وتاريخ العبودية والاسترقاق بها، اهتمت المتدخلة الرابعة؛ الباحثة مريم السعيدي، بورقتها الموسومة بـ”التخييل التاريخي ومظاهر الاسترقاق بالأندلس في رواية “هذا الرطيب”، حيث تحدثت عن التخييل التاريخي باعتباره مادة تاريخية مشكلة بواسطة اللغة والسرد، وعن حضور التاريخ الوصفي والتصنيفي في الرواية، ورصدت بعض مظاهر الرقيق وأعمالهم ووظائفهم وأدوارهم المرتبطة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتوقفت عند بعض ثورات العبيد مثل الثورة الهايتية التي أدت إلى
استقلال جمهورية هايتي، والثورة الأمريكية التي أدت إلى نتائج مختلفة. كل هذه الأحداث تمت صياغتها وفق شخوص وأمكنة حملت مؤشرات تاريخية، لتجمع الرواية بين البعد الجمالي ووقائع التاريخ المنصهرة في دائرة السرد.
وقد جاءت المداخلة الأخيرة للباحث حسن لمغرز بعنوان: “اللغة والسرد عبر النوعي في كتابات لمباركي مهجة نموذجا”، حيث قارب فيها الرواية من خلال تصور باختين في كتابه “الخطاب الروائي”، ورصد ثلاثة أنواع أدبية موجودة في الرواية هي:
– الشعر العربي؛ الذي أسهم في التأريخ للمجتمع الأندلسي وما يتميز به، وقد حضر بألوانه المتعددة كشعر الوصف، وشعر المُغَنى وشعر النقائض والغزل.
– الرسائل السلطانية؛ التي اكتست دلالة تاريخية وخصوصية لغوية.
– المذكرات؛ التي تجلت في مختلف أشكالها.
كما تطرق إلى بعض الأنواع غير الأدبية من قبيل عقود البيع والشراء، النصوص الدينية، التوراة بأسفارها، القرآن الكريم، الحديث النبوي الشريف، وتقارير الشرطة التي أضافت لغة جديدة إلى الرواية، وتناول أخيرا بعض الأنواع الأدبية الصغرى كالحلم أو الرؤيا التي تناسلت بشكل متواتر داخل فصول الرواية مشكلة جزءا لا يتجزأ من نسق النص.
وفي نهاية أشغال الجلسة، تقدم الأستاذ الميلود عثماني بشهادة في حق الروائي والقاص محمد مباركي، مستوحاة من شخصية الأديب، وأستاذ التاريخ، وصوت المبدع الروائي والقاص، مشبها إياه بتولتسوي الذي ينسى جراحه ومآسيه، ليكتب عن جراح الآخرين، متوقفا عند خمسة جوانب شملت شخصية ومنجز محمد لمباركي؛ أولها سمو النسب وقوة الذاكرة، ثانيها تعدد المرجعيات، ثالثها تنوع الشكل السردي والتخييلي، رابعها القسوة على النفس والكتابة، وخامسها سمات اللطف والطيبة التي طبعت شخصه.
بعد الجلسة الأولى، كان الكاتب على موعد مع جلسة حوارية ترأسها الباحث عبد العالي دمياني، ليحاور الكاتب ويستنطق ذاته المبدعة في علاقتها بالسرد والتاريخ والمجتمع والهوية، لتنساب أجوبتهُ بتلقائية ورحابة وهوَ يحكي عن تجربته الأدبية التي ابتدأها بكتابة القصة القصيرة قبل أن يتوجه إلى كتابة الرواية التي استطاعت أن تخمد ذلك البركان المتوهج من الأفكار المستوطَنة في فؤاد الكاتب وفكره.
وهكذا استطاع هذا اللقاء العلمي بتنوع تيماته ومقارباته ومرجعياته، أن يترك أثرهُ في نفس الكاتب وهوَ يقر ببصمته التي ستظل موشومة في ذاكرته أبدا.