جهة الشرق: قصة نجاح الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بالمغرب
تتميز جهة الشرق بكونها تحتل مكانة الريادة في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بالمغرب، حيث تجمع بين التقليد والابتكار بهدف تعزيز التنمية المحلية والدفع بها. بفضل شبكة مزدهرة من التعاونيات، وإيلاء أهمية خاصة لإدماج المرأة، والمبادرات الجريئة، استطاعت جهة الشرق تحويل مواردها المحلية إلى رافع وآليات للتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
التزم المغرب، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بشكل قوي بمسايرة خط الاقتصاد الاجتماعي والتضامني (ESS). فانطلاقا من برنامج التقويم الهيكلي مرورا بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وصولا إلى النموذج التنموي الجديد، تعمل المملكة دوما على إدراج هذا التوجه ضمن سياساتها التنموية. تماشيا مع هذه التوجهات والاستراتيجيات الوطنية، قامت جهة الشرق بإدماج هذه المقاربة التنموية تدريجيا في برامجها التنموية، إلى أن نجحت في تصبح جهة رائدة ونموذجا متميزا في هذه الدينامية.
عند نقطة التقاء الاقتصاد والالتزام الاجتماعي، يعيد الاقتصاد الاجتماعي والتضامني تحديد معالم التنمية المستدامة، فالتعاونيات والجمعيات والتعاضديات تعتبر ركائز ودعامات أساسية تجمع في الآن ذاته بين هدف تحقيق الربح وخلق الأثر المجتمعي. وفي المغرب، يشكل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني محركا قويا للنمو المدمج والشامل، حيث تتولى وزارة السياحة والحرف والاقتصاد الاجتماعي والتضامني الإشراف على الاستراتيجية الوطنية الخاصة بهذا القطاع وقيادتها.
تضع هذه الاستراتيجية مسألة إدماج الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع ضمن أولى أولوياتها وفي صلب اهتماماتها، ساعية إلى خلق فرص الشغل والرفع من مؤشرات التنمية البشرية وتوفير ظروف من شأنها تأمين العيش الكريم وحياة أفضل لفائدة الفئات المعوزة والفقيرة في المجتمع.
ضمن هذه الدينامية الوطنية تبرز جهة الشرق كجهة متميزة بفضل التزامها المستمر، وتقدم نفسها باستمرار باعتبارها نموذجا واعدا في مراعاة وتطبيق المبادئ المؤطرة للاقتصاد الاجتماعي والتضامني على الصعيد الجهوي.
جهة الشرق: رائدةُ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بالمغرب
تبرز حيوية جهة الشرق في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بشكل جلي من خلال الأرقام الدالة على ريادتها في هذا القطاع: فوفقا لمكتب تنمية التعاون، بلغ مجموع عدد التعاونيات بالجهة في سنة 2022 حوالي 5517 تعاونية، مما جعلها تحتل المركز الأول بين جهات بالمغرب في هذا المجال. لكن المسألة الأهم في هذا الصدد هو أن قطاع التعاونيات النسائية بالجهة يشهد اندماجا أكبر ونموا سريعا، حيث يضم نسيج التعاونيات أكثر من 62.821 امرأة متعاونة، تتوزع على 620 تعاونية نسائية على امتداد تراب جهة الشرق.
هذه القفزة النوعية لم تأت من فراغ أو تتحقق نتيجة للصدفة: فالجهة تزخر بخزان كبير وكنز مهم من المنتجات المحلية تشكل دافعا قويا ومحفزا حقيقيا لتحقيق الازدهار والتطور الاقتصادي والاجتماعي للجهة. فمن تمور منطقة فكيك وصولا إلى الحوامض ببركان، مرورا بالزيوت التي تعد بمثابة مادة أساسية بجرادة و”الترفاس” (الكمأة) بمنطقة بوعرفة، كلها خصوصيات ومنتجات محلية توفر الفرص المواتية لإنشاء جمعيات وتعاونيات، وتقود بالتالي إلى تعبئة المؤهلات البشرية وخلق الثروة.
وعيا منه بالدور المحور وأهمية هذه المؤهلات والمقومات الكبيرة التي تزخر بها المنطقة، اتخذ مجلس جهة الشرق خطوة مهمة وحاسمة في سنة 2019 بإطلاقه مشروع إنشاء منصة لوجستية بوجدة خاصة بالمنتجات المحلية، حيث تطلب إخراجه إلى الوجود ميزانية استثمارية بلغت قيمتها المالية 195 مليون درهم. وتم إطلاق المنصة خلال فعاليات الدورة الثالثة للمعرض الجهوي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وهو تظاهرة رائدة تنظم سنويا وتستقطب عشرات الآلاف من الزوار وتجمع الفاعلين في هذا القطاع، لا سيما الصناع التقليديين والحرفيين والتعاونيات من كافة أنحاء وجهات المغرب. ويتولى المركز الجهوي للاستثمار (CRI) الجوانب اللوجستية المتعلقة بهذه المنصة وكذا مسألة الترويج لها، وبالتالي تقوية ورفع مستوى الاطلاع عليها وتأثيرها.
إن هذه الاستثمارات الكبيرة، إلى جانب تنظيم فعاليات وتظاهرات واسعة جدا وتحقق دينامية داخل الجهة في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لم تكن بعيدة عن أعين واهتمامات الهيئات والمؤسسات الوطنية. فقد أصبحت جهة الشرق بالفعل مركز اهتمام ونقطة محورية للعمل بالنسبة لعدد من الفاعلين والمتدخلين من الدولة، الذين باتوا يعتبرون الجهة نموذجا واعدا لتحقيق التنمية الاقتصادية المدمجة والشاملة.
جهة الشرق: نقطة التقاء المبادرات الوطنية والدولية في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني
تحولت جهة الشرق الواقعة على حدود المغرب، والتي كانت تعتبر سابقا وعلى امتداد فترة طويلة بمثابة جهة مهمشة، في وقتنا الحالي إلى قطب للابتكار الاجتماعي والاقتصادي. وقادت المؤهلات والإمكانيات الفريدة التي تزخر بها في هذا الصدد إلى إطلاق سلسلة من المبادرات الرامية إلى تعزيز التنمية المدمجة والشاملة والمستديمة بالجهة.
ويعكس مشروع “مؤازرة”، الذي يعتبر برنامجا رائدا ضمن استراتيجية وزارة السياحة والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، هذه الدينامية بوضوح. فقد أعطت هذه المقاربة، التي اعتمدت في النسخة الرابعة للبرنامج في سنة 2024، زخما جديدا ودفعة مهمة للقطاع، أساسا من خلال تمويل مشروع طموح لتنمية السياحة القروية وتطويرها. ويروم هذا الإنجاز، الذي تحقق بفضل التعاون الوثيق مع مجلس جهة الشرق، تسليط الضوء على كنوز الطبخ للتعاونيات في جهة الشرق، وبذلك يجمع بين الحفاظ على التراث وتحقيق التمكين الاقتصادي.
علاوة على ذلك، فقد تبلور الالتزام الدولي من أجل قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بجهة الشرق خلال المنتدى المغربي الإسباني للاقتصاد الاجتماعي والتضامني التي تم تنظيمه بمدينة الناظور في فبراير 2023. تميز هذا الحدث الذي يعد ثمرة تعاون مع الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية (AECID) بإبرام اتفاقية رائدة ومهمة في هذا الصدد. يتعلق الأمر بالاتفاق على تعزيز وتقوية قدرات 240 تعاونية بجهة الشرق في مجالات مهمة للغاية في وقتنا الحالي، مثل الريادة والتواصل والرقمنة.
ويبدو أن المستقبل بدوره واعد أيضا في هذا المجال، خصوصا مع الإعلان في شهر يوليوز 2024 عن برنامج “تحفيز نسوة”. هذا البرنامج الذي يستهدف على وجه التحديد تمكين النساء النساء والشباب في مجال ريادة الأعمال، سيضع بدوره جهة الشرق مرة أخرى في صلب الابتكار الاجتماعي. استنادا على الشراكة الموقعة بين الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية (AECID) والمجالس الجهوية، بما فيها مجلس جهة الشرق، فإن برنامج “تحفيز نسوة” يَعِد بفتح آفاق جديدة لريادة الأعمال لدى النساء والشباب في الجهة.
في السياق ذاته، أطلقت الشبكة المغربية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني بدورها مشروعا طموحا يمتد من سنة 2023 إلى سنة 2025، تمويله أيضا من قبل الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية. يسعى هذا المشروع بشكل أساس إلى تعزيز الإدماج الاجتماعي والاقتصادي للنساء والشباب الذين يعيشون وضعية الحرمان والتهميش على صعيد جهة الشرق، وبالتالي تعزيز وتقوية النسيج الاجتماعي والاقتصادي للجهة.
ويتولى الفاعلون المحليون وكافة المتدخلين بالجهة تنزيل الاستراتيجيات الوطنية والدولية في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على الصعيد الجهوي، حيث تعمل هذه الأطراف كلها على تحويل الفرص المتاحة إلى إجراءات ملموسة على أرض الواقع، مما يقود إلى تقوية منظومة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وجعلها منظومة حية على صعيد مجالها الترابي.
جهة الشرق: منظومة ديناميكية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني يقودها فاعلون محليون
إلى جانب المعرض الجهوي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، تتميز جهة الشرق كذلك بتنظيم المعرض الجهوي للمنتجات المحلية بالسعيدية، الذي نظمت نسخته التاسعة في شهر يوليوز من العام الجاري، والتي أتى ثمرة للتعاون بين جمعية جمعية الدار العائلية القروية بني يزناسن وقطاع الفلاحة بالجهة، حيث سلطة الدورة الضوء على الثراء والغنى المحلي الذي تتميز به الجهة. وخلال فعاليات الدورة الحادية عشرة للقرية التضامنية بمداغ لسنة 2023، والتي أقيمت على هامش الملتقى العالمي للتصوف في دورته الثامنة عشرة، تمَّ تخصيص جناح استثنائي خاص بمنتجات جهة الشرق، وذلك احتفاء بخبرة التعاونيات المحلية، مع تقديم ورشات تكوينية وتدريبية لفائدة زوار القرية التضامنية.
في السياق نفسه، شهدت الجهة تطورا مهما بإبرام العديد من الاتفاقيات والقيام بإجراءات مركزة ومهمة، إذ أجرى مكتب تنمية التعاون زيارات بهدف مواكبة تعاونيات الصناعة التقليدية في إطار مشروع “جسر الابتكار الرقمي الأوروبي الإفريقي – نيت “AEDIB NET” الممول من طرف الاتحاد الأوروبي. كما مكنت اتفاقية التعاون والشراكة أبرمت بين وكالة الشرق وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية ومكتب تنمية التعاون والمكتب الوطني للاستشارة الفلاحية من إطلاق برنامج DéLIO III، والذي رصد له مبلغ مالي يقدر بـ 5 ملايين دولار أمريكي وسيمتد للفترة الممتدة من سنة 2024 إلى سنة 2028، حيث يسعى إلى تعزيز قدرات وكفاءات التعاونيات وتحسين الإدماج وظروف العيش المحلية.
بالموازاة مع ذلك، أطلق البرنامج الجهوي لمبادرات الفاعلين في مجال الهجرة، في ماي 2023، 27 مشروعا جديدا بجهة الشرق، تركز حول الهجرة والتنمية المهتمة بالإدماج. ولتنفيذ هذا المشروع الذي يتم إنجازه بشراكة مع مجلس جهة الشرق والولاية، تمت تعبئة حوالي 1.255 مليون أورو عبر آلية “Le Guichet”. وتتولى الجمعيات والتعاونيات المحلية تنزيل مشاريع هذا البرنامج، والتي سيتم توزيعها على صعيد الجماعات الترابية الثمانية المكونة للجهة، مما سيؤدي إلى النهوض بالنسيج الاجتماعي والاقتصادي للجهة وتقويته.
علاوة على ذلك، فإن روح التضامن تعتبر أمرا متجذرا في ثقافة جهة الشرق، ويتجلى ذلك بشكل ملفت للانتباه من خلال مبادرات مثل مشروع “شباب الشرق”. فقد تمكنت مجموعة من التعاونيات المنضوية في إطار هذا المشروع من تكييف نموذجها سعيا منها لمواجهة التحديات التي فرضتها جائحة كوفيد-19، ونجحت في ذلك بعد أن ابتكرت وطورت نقطة للبيع خاصة بالتعاونيات بوجدة مخصصة لعرض وتسويق المنتجات المحلية. ويبرز هذا المشروع الذي رأى النور في سنة 2016، مدى القدرة على الابتكار والمرونة التي يتسم بها الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بالجهة، وقدرته أيضا على خلق فرص الشغل وتعزيز التنمية المحلية مع تقوية روح المبادرة والمقاولة.
وقد ساهم الالتزام المستمر من أجل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بجهة الشرق، من بين عوامل أخرى، في تحسين ورفع مستوى المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية بالجهة خلال السنوات الأخيرة. وحسب المندوبية السامية للتخطيط، شهدت نسبة الفقر النقدي تراجعا ملحوظا، حيث انتقل من 5,3% في سنة 2014 إلى 4,2% في سنة 2022. وبحسب المصدر ذاته، فإن نسبة الفقر متعدد الأبعاد تحسنت بشكل ملحوظ، إذ انخفضت من 9,3% إلى 5.9% في سنة 2022، ليقترب من المعدل الوطني البالغ 5.7%.
والمثير للاهتمام بشكل أكبر كذلك هو أن المرصد المغربي للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة سلط الضوء، في دراسة إنجازها، على التطور الرائع والمطرد في خلق فرص العمل. ففي العام 2022، نجحت الجهة في خلق 137012 فرصة عمل جديدة، وهو ما يشكل زيادة مذهلة بنسبة بلغت 20.9% مقارنة بالعام 2021.
ورغم أن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ليس العامل الوحيد في هذا النمو الإيجابي، فإنه يلعب من دون شك دورا مهما في الدفع بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لجهة الشرق، ما يوضح كيف مدى إمكانية مساهمة الابتكار الاجتماعي في تحقيق التقدم الشامل للجهة والدفع بها نحو الأمام.