رئيس التحرير الدكتور عزت الجمال– خبير في الشؤون الاستراتيجية والعلاقات الدولية يكتب: زهران ممداني يصنع التاريخ… أول عمدة مسلم لمدينة نيويورك والأصغر منذ قرن

من لاجيٍ عراقيٍ إلى عمدة نيويورك: قصة زهران ممداني التي تدهش أميركا والعالم. وُلد في بغداد، فقدته الحرب وطوافه الهجرة حتى وصل إلى الولايات المتحدة باحثًا عن فرصة وحياة جديدة؛ اليوم يكتب تاريخًا بطريقته بعد حصوله على الجنسية الأميركية عام 2018. نشأته في أسرة مثقفة — والد مفكرٍ يعمل في الدراسات ما بعد الاستعمار ووالدة مخرجة سينمائية — وشهادة دراسية من كلية باركلمان دفعت به نحو العمل الاجتماعي والسياسي. تحوّل من ناشط محلي ومناضل من أجل العدالة والمساواة إلى أحد أبرز الوجوه الشابة في الحزب الديمقراطي، ليعلن اليوم رسميًا عمدة لأكبر مدينة أميركية وأشهرها — إنجازٌ لم يسبقه إليه لاجئ عراقي، ورسالة قوية لمن يعتقد أن الحلم مستحيل.

لحظة فاصلة في تاريخ المدينة
حقق زهران ممداني انتصارًا تاريخيًا بانتخابه كأول عمدة مسلم لمدينة نيويورك، والأصغر سنًا منذ أكثر من مئة عام. السباق الانتخابي لهذا العام حصد اهتمامًا غير مسبوق، إذ بدأ ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا وعضو الجمعية التشريعية لولاية نيويورك، كمرشح مغمور إلى حد كبير، قبل أن يصعد سريعًا إلى قمة استطلاعات الرأي، مدفوعًا بحملة ميدانية قاعدية جذبت الشباب والناخبين من الطبقة العاملة والمهاجرين. ويمثل انتخابه لحظة فاصلة بالنسبة للتيار التقدمي في الولايات المتحدة، إذ يشير إلى تحوّل واضح في مركز الثقل السياسي في المدينة التي طالما كانت معقلًا لليبراليين التقليديين. حملته الانتخابية ركّزت على العدالة الاجتماعية، والسكن الميسور، وتوسيع النقل العام المجاني، مع رؤية تُعيد تعريف “نيويورك للجميع”.

ترامب يدخل على الخط
وفي مشهد غير مسبوق في انتخابات محلية، تدخل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لحشد الأصوات ضد ممداني، داعيًا الناخبين إلى دعم الحاكم السابق أندرو كومو، الذي ترشح كمستقل بعد خسارته في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
قال ترامب في منشور عبر موقعه Truth Social:
“سواء كنت تحب أندرو كومو شخصيًا أم لا، فليس لديك خيار آخر بالفعل. يجب أن تصوتوا له، وتأملوا أن يقوم بعمل رائع… إنه قادر على ذلك، أما ممداني فلا.”
ورد كومو ساخرًا من دعم ترامب “الملتبس”، قائلاً:
“إنه لا يؤيدني، بل يعارض ممداني.”
جذور متنوعة وهوية واضحة
وقد أصبح السياسي التقدمي، المنتمي إلى جيل الألفية، أول عمدة مسلم ومن أصول جنوب آسيوية في المدينة، ولم يتردد في إعلان جذوره وسط هذا التنوع السكاني. فقد نشر أحد فيديوهات حملته الانتخابية بالكامل باللغة الأردية متضمناً لقطات من أفلام بوليوودية، وفي فيديو آخر تحدث بالإسبانية، في إشارة واضحة إلى تنوع نيويورك الثقافي وإلى رغبته في مخاطبة سكانها بلغاتهم وهوياتهم المختلفة.

حياة شخصية غنية وتعدد ثقافي
تعرّف ممداني على زوجته راما دواجي، وهي فنانة سورية تبلغ من العمر 27 عامًا تعيش في بروكلين، عبر تطبيق المواعدة Hinge. أما والدته فهي المخرجة السينمائية العالمية ميرا ناير، صاحبة أفلام شهيرة مثل Monsoon Wedding، ووالده الأكاديمي محمود ممداني، أستاذ في جامعة كولومبيا وأحد أبرز المفكرين في دراسات ما بعد الاستعمار. وكلا والديه من خريجي جامعة هارفارد.
من النضال الشعبي إلى قمة السلطة
قبل دخوله معترك السياسة، عمل ممداني مستشارًا في قطاع الإسكان، حيث ساعد مالكي المنازل من ذوي الدخل المحدود في منطقة كوينز على مواجهة خطر الإخلاء.
وفي ملفه الشخصي بالجمعية التشريعية وردت عبارة تلخص مسيرته:
“مع تقلبات الحياة وتفرعاتها بين السينما والراب والكتابة، ظل العمل التنظيمي دائمًا ما يمنعه من الوقوع فريسة لليأس، ويدفعه بدلاً من ذلك إلى الفعل والمبادرة.”
برنامج طموح لمدينة أكثر عدلاً
يرى ممداني أن الناخبين في المدينة الأعلى من حيث تكلفة المعيشة يريدون من الديمقراطيين أن يركزوا جهودهم على تحسين القدرة على تحمل تكاليف المعيشة.
وقال في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC):
“هذه مدينة يعاني حوالي ربع سكانها من الفقر، وهناك نحو 500 ألف طفل ينامون جائعين كل ليلة. وفي نهاية المطاف، تبقى المدينة مهددةً بخسارة ما يجعلها متفردة ومميزة.”

واقترح سلسلة من الخطط الجريئة، أبرزها:
خدمة مجانية للتنقل بالحافلات بين جميع أنحاء المدينة.
تجميد الإيجارات وتشديد المساءلة على المالكين المقصرين.
إنشاء متاجر بقالة مملوكة للمدينة لتوفير سلع بأسعار معقولة.
رعاية شاملة ومجانية للأطفال من عمر ستة أسابيع حتى خمسة أعوام.
مضاعفة إنتاج المساكن مستقرة الإيجار والمبنية بأيدٍ نقابية ثلاث مرات.
وتشمل خطته أيضًا إعادة هيكلة مكتب العمدة لضمان محاسبة مالكي العقارات وتوسيع نطاق الإسكان الدائم بتكلفة في متناول المستهلك.
سياسة قريبة من الناس
في حملته الانتخابية، ربط ممداني الترويج لهذه السياسات بسلوكيات رمزية جذبت انتباه الناخبين، إذ غطس في مياه المحيط الأطلسي دعمًا لمطلب تجميد الإيجارات، وتناول وجبة بوريتو على متن مترو الأنفاق خلال رمضان لتسليط الضوء على أزمة الأمن الغذائي. وقبل أيام من الانتخابات، سار على امتداد جزيرة مانهاتن، متوقفًا لالتقاط صور شخصية مع الناس، في مشهد أعاد إحياء تقاليد السياسة الشعبية.

تحليل الجيل الجديد في أمريكا
يزخر فوز ممداني برسائل أعمق حول قوة الجيل الجديد في الولايات المتحدة. جيل يستخدم البودكاست والانستغرام والتيك توك كأدوات للتأثير على الرأي العام، ويتحدي المؤسسات التقليدية الإعلامية والسياسية والمالية. هذا الجيل يفرض شروطه على النظام السياسي، ويصبح قوة ضاغطة قابلة للتوسع، مما يخلق صراعًا بين الأجيال القديمة والقيم التقليدية من جهة، وأدوات التواصل الحديثة والرؤية التقدمية من جهة أخرى.
خاتمة
فوز زهران ممداني يتجاوز الحدث المحلي: إنه مرآة لصراع أعمق بين أجيال وقوى سياسية في الولايات المتحدة والعالم الغربي. موقفه الحازم من القضايا الدولية ووضعه في مواجهة قوى يمينية، يجعله رمزًا للجيل الجديد الذي يطالب بالمشاركة ويعيد تعريف السياسة. الأجيال الجديدة التي تستخدم وسائل التواصل الحديثة، تصنع رأيًا عامًا ويضعف أدوات النخبة التقليدية، وهو ما قد يحوّل هذا الجيل إلى قوة ثائرة إن لم تتكيف المؤسسات معه.
