مهام ما بعد الزلزال
في أقسى كارثة طبيعية تضرب المغرب خلال القرن الأخير ، هز زلزال ، بقوة 7 درجات على سلم ريشتر و في عمق 8 كيلومترات ، أقاليم مراكش ، الحوز ، تارودانت ، شيشاوة ، آزيلال و ورزازات ليل يوم الجمعة 08 شتمبر 2023 ، مخلفا 2900 قتيلا و 5674 جريحا و تدميرا كاملا أو جزئيا لما يقارب ستين ألف منزلا ، ناهيكم عن إتلاف البنيات التحتية في أكثر من 2900 من الدواوير على امتداد 163 جماعة ترابية ، حتى بات عدد المتضررين يناهز 2,8 مليون نسمة حسب الأرقام الرسمية .
الحصيلة ، كما هي بادية ، ثقيلة للغاية سواء على مستوى الأرواح أو الجراح أو الأضرار المادية أو الاقتصاد ، لذلك فمن البديهي ألا يتم تجاوز آثار الكارثة إلا بعد سنوات و مجهودات كبيرة ، مضنية و خلاقة تدبيرا و سياسة و اقتصادا و اجتماعا و حقوقا من أجل إعادة تأهيل الناجين و إعادة الإعمار بتوجه ترابي ثوري يجعل القرية جزءا منتجا للتنمية و قطعة من الدينامية السوسيو-اقتصادية و مجالا للحياة الكريمة و فضاءا مرتبطا، عبر كل القنوات، بالجغرافية الحيوية للبلاد .
ورغم هول المصيبة و آثارها المادية و النفسية المؤلمة و المباشرة على من فقدوا ذويهم و ممتلكاتهم و شاهدوا الرقعة الترابية لوجودهم الاجتماعي تزول و تداعياتها الغير مباشرة على عموم المغاربة الذين حزنوا كثيرا وهم يعاينون حجم المأساة ، رغم كل ذلك ، يجدر بنا القول أن الزلزال قد حرك و حرر و حفز الكثير من الطاقات الكامنة في هذا الوطن و التي كان قد عصف بها ، أو كاد ، ما بتنا نعيشه مع النخب من تردي فكري و مع خصوم الانتقال الديمقراطي من بؤس سياسي و مع لوبيات الفساد من يأس جماعي و مع بؤر الفهم المغلوط للحداثة من سقوط قيمي و مع صعود وجوه التفاهة إلى صدارة المشهد التواصلي من تبخيس و تمييع و تسفيه للقضايا الحقيقية للبلاد و الناس .
الملك و فكرة الإصلاح سبيلنا إلى المغرب الذي نريد
لقد تمكن المغاربة ، و معهم العالم ، من التيقن أن اسلوب الملك محمد السادس في الحكم ، قائم ، بالفعل ، على التصرف و العمل و الإنجاز و ليس على البروبغاندا ، التصرف و العمل و الإنجاز في المساحات و الاختصاصات المكفولة دستورا ، برصانة و فعالية و نجاعة و رؤية دقيقة لما يتطلب الاستعجال و ما يقتضي المخططات الاستراتيجية و على خطاب سياسي سلس و مرن في مقاربة الملفات و ممارسة صارمة و حازمة عندما يتعلق الأمر بقضايا حيوية للأمة و للوطن و على حس إنساني رفيع حين يهم الشأن فئات و جهات تعبت من الهشاشة و الحاجة و من التعثر المزمن للعدالة الاجتماعية و المجالية .إدارته الثاقبة لقمرة قيادة تدبير نتائج الزلزال و مرحلة ما بعد الزلزال و حجم الاجراءات و المبادرات و الأرصدة المالية المعتمدة ، تعفي التحليل الموضوعي من النظر صوب افتراءات حكام و أقلام و إعلام النيوكولونيالية و من الالتفات إلى ما تبقى من العدمية و تجعلنا في لحظة وحدة وطنية متوهجة و تلاحم عظيم بين المؤسسة الملكية و القوات الشعبية المريدة للإصلاح .على المغاربة أن يتذكروا أن إسقاط الحماية و جلاء الإقامة العامة و تحرير البلاد قد تيسر بتلاقي إرادتي القصر و الحركة الوطنية ، و أن إنهاء الاحتلال الإسباني للصحراء قد جاء إثر إجماع وطني دعت إله المؤسسة الملكية و تفاعلت معه بإيجاب القوى الحية ، و أن الأوراش الكبرى في السياسة و التنمية و الحقوق قد تحققت في ظل ابتهاج شعبي عارم بالعهد الجديد . قراءة متأنية ، إذن ، لتاريخنا الحديث و لتجارب الصراع السياسي حول السلطة و لمآلات المشروع الإصلاحي إبان الصدامات ، ستسعفنا في التأكد من أن فكرة الإصلاح الحازم و حسم النزال مع بنية الفساد و تعزيز التنمية و صياغة الدولة الاجتماعية و الوفاء لخلاصات الإنصاف و المصالحة، لا تستقيم إلا بتحالفها الاستراتيجي مع المؤسسة الملكية و رهانها على هذه المؤسسة في قيادة مشروع الإصلاح الآن و غدا و أبدا . هكذا فقط ، سيتحقق الانتقال الديمقراطي ، دون قلق ، و سيصير النظر ممكنا إلى مرحلة ما بعد الانتقال.
من هم أصدقاء المغرب و من هم خصومه
قضية الوحدة الترابية للمغرب و سيادته على صحرائه ، أصبحت حقيقة في العلاقات الدولية و ركنا حاسما في التحالفات و المصالح و الدبلوماسية و شرطا محددا لمن هم أصدقاء المغرب و من هم خصومه . لذلك فإنه لمن السخافة التساؤل عن الخلفية السياسية للاعتذار عن قبول المساعدات من فرنسا- ماكرون . حاكم الإيليزي ، الذي رأيناه يفقد اللياقة و يسقط أبسط قواعد التعامل بين المتمدنين و يخاطب المغاربة مباشرة و هو في حالة هذيان ، و الناطقون باسمه و بالإيعاز ، لا يستطيعون تقيدير الموقف بشكل سليم و استساغة هذا التطور الطبيعي فيه ، لأنهم ، و بكل بساطة ، غير قادرين على التخلص من النزعات الإمبريالية المستوطنة في بنية تفكير الموجة التي جائت إلى الحكم بعد تراجع البدائل التقليدية و التقدمية أمام الناخبين في فرنسا و في عدد من دول الشمال .إن هذه النزعات ، من وجهة نظرنا ، هي التي جلبت لفرنسا الكثير من الانتكاسات الجيو-سياسية و فقدان مواقع ارتكاز لنفوذها ، كما حصل بمالي و بوركينا فاسو و النيجر و ينذر ، أو يبشر ، بنهوض حركة تحرر تعم إفريقيا وعموم دول الجنوب لمناهضة التوجه النيوكولونيالي للرئيس الفرنسي و فريقه و مراجعة تواجد المصالح الفرنسية على الجغرافيا التي خضعت للاستعمار المقيت و لأبشع أشكال القمع و التقتيل و النهب و الاستغلال طيلة عقود .قرار المغرب ، إذن ، القاضي بالنظر إلى العالم من خلال ملف الصحراء و اعتبار هذا الملف المقياس الوحيد و البسيط لمدى صدقية الصداقات و نجاعة الشراكات ، كان نقطة نظام بالغة الأهمية ليتعرف المنتظم الأممي ، بكل دوله و أروقته و دواليبه ، على موقف المملكة ، و ليعلم الجميع ، في هذا الباب ، أن مقترح الحكم الذاتي ، الذي يقف على أرضية الحيثيات التاريخية و القانونية و السياسية و الحقوقية و الدبلوماسية للملف و يستجيب، في الشكل و في المضمون ، للشرعية الدولية ، أن هذا المقترح هو السقف و أن من لا يزال يريد المناورة ، في هذا الشأن ، للابتزاز و المصالح و دس الرسائل ، فهو بعيد جدا عن إدراك معنى التعاون الدولي للفض السلمي للنزاعات الترابية .لذلك فإن ذهاب بلادنا في هذا الاتجاه ، مع الترافع بكفاءة و جدارة و نزاهة أمام الحكومات و الهيئات و الشعوب ، هو تطور طبيعي يلي مقترح الحكم الذاتي ، بعد 15 سنة على تقديمه ، و سيمكنها من تنقية علاقاتها و تحالفاتها و شراكاتها من الشوائب و الطوباوية و الاستعلاء و الرياء و الابتسامات الصفراء.
ديناميات الشعب و عجز النخب
الحدث التضامني الوطني المدهش ، الذي نسجه المغاربة ، بعفوية و تلقائية و قلب ، بمجرد ما علموا بالزالزال و هرعوا لدفن شهدائهم و نجدة و مساندة و دعم الناجين في المناطق المنكوبة ، حتى في أبعد قمم الأطلس الكبير ، بكل ما أوتوا من إمكانات و دموع و إيثار ، سيبقى منقوشا في الذاكرة الجماعية للعالم و في الضمير الجمعي للناس ، كل الناس الذين عاصروه . لقد انبهر البشر و الشجر و الحجر بالملحمة التي صاغها المغاربة في الداخل و الخارج و رفعوا، عبرها ، سقف معاني التعاضد و التطوع و التضحية بعيدا بعيدا ، هناك ، في قواميس القيم و النبل و السخاء .دون تهييء أو تخطيط أو تنسيق أثبتوا ، و من جديد ، أنهم في المنعطفات الكبرى و المحن القاسية و حين يناديهم الوطن يتجاوزون نخبهم و يضعونها في المأزق أمام التاريخ . لقد عاينا هبة شعبية عارمة ذكرتنا بروح و رائحة و نفس المغاربة حين يتعبئون و يتجندون و يتكاتفون حول قضية و حين يريدون سحق المستحيل. ستكون النخب ، حقا ، في حيص بيص و يبدو ، في اعتقادنا ، أنها حشرت في الزاوية و لم تعد أمامها خيارات كثيرة . فمن الصعوبة بمكان ، أن نتصور، الآن ، أن النخب الحالية سواء في الأحزاب أو النقابات أو المؤسسات المنتخبة ، و بوضعها الناطق بأعراض الترهل و التأخر و الضمور ، ستبقى لها أدوار في التأطير و الوساطة و التدبير . لقد أضحت تشكل ، و بكل أسف ، عبئا ثقيلا على مسار الانتقال ، نعيد اكتشافه باستمرار منذ خريف 2007 ، كلما كنا أمام مشكلة أو محنة أو امتحان .حكاية و طبيعة و آداء الحكومة الحالية عنوان بارز للمعضلة و النزاهة الفكرية اتجاه قضايا البلاد و الناس ، تفرض واجب التنبيه إلى خطورة أمر كهذا على النسق السياسي و النسيج الاجتماعي و تحتم الدعوة لأن لا يتم القفز على هذا الواقع المقلق أو تجاهله أو تأجيل البث فيه و الحث على أن يحظى بالاهتمام و التعاطي و التصدي و بالمعالجة الفورية من قبل الدولة و المجتمع معا ، حتى تتهيأ شروط فرز طبيعي لنخب مؤهلة للمرحلة و لما هو قادم و للمستقبل. لقد أجمع الفكر السياسي الأممي على استحالة البناء الديمقراطي دون قوى سياسية و اجتماعية قائمة على الشرعية و حاملة لمشروع . هذه أبجديات النظم الديمقراطية و من المسلم ألا تشكل أية تجربة تتلمس المسار نشازا في هذا المضمار. لذلك فإن تجنب طرح سؤال النخب سيكون ضربا من ضروب طمس الحقائق السياسية و الاجتماعية وشكلا من أشكال تضليل المواطنين و مظهرا من مظاهر إعاقة التحول الديمقراطي و جيبا من جيوب مقاومة التغيير.
حسم النزال مع الفساد هنا و الآن
لا يمكن ، بأي حال من الأحوال ، استمرار تعايشنا مع الفساد المستشري في مفاصل السياسة و الاقتصاد و الإدارة و المرافق و المؤسسات لأسباب تاريخية و سياسية معروفة ، إن كنا جادين ، فعلا ، في تبني الخيار الديمقراطي و الذهاب قدما في مسارات التنمية و الدولة الاجتماعية و حقوق الناس و تصليب الجبهة الداخلية لمواجهة مناوشات و مناورات و مخططات خصوم وحدتنا الوطنية و الترابية .مهادنة الفساد نهج لا يليق بمغرب الآن و المغرب الممكن غدا و إضاعة مزيد من الوقت في اتخاذ القرار السياسي الحاسم لاستئصاله تهديد استراتيجي لكل أوراش البناء المفتوحة .نتحدث عن القرار السياسي ، هنا ، لأنه رغم القوانين التي يتم بلورتها و الهيئات التي يتم إقرارها و الالتزامات الدولية التي قطعها المغرب على نفسه ، مازالت سيادة الإفلات من العقاب و عجز آليات الرقابة و وجود منصات للحماية السياسية تعطل تسمية الأشياء بمسمياتها و تحقيق نتائج كافية و بلوغ الأثر المأمول على المواطن و المستثمر و الفاعل الاقتصادي و المؤسساتي .و لعل ما يفاقم هذا الوضع هو نهج إقحام المال في البحث عن السلطة و النفوذ و ابتلاع المجتمع ، رغم تحذيرات العلوم السياسية وقواعد اللعب النظيف في النظم الديمقراطية وتجارب الشعوب. يكفي طرح سؤالين على مواطن الفساد لندرك هول الاستنزاف الذي يتعرض له اقتصادنا و الناتج الداخلي الخام و معدلات النمو و المال العمومي و رصيد البلاد في ما أنجز من انتقال حتى الآن ، و ليتبين أن الفساد بات بنية تحتية ببنية فوقية ، و لتتضح معالم خارطة طريق المواجهة . الأمر يتعلق بالسؤال الشهير من أين لك هذا و بسؤال إضافي لا يقل أهمية و جدوى ، نقترحه من زاوية نظرنا ، و هو سؤال من يحميك و يمنحك كل هذه الثقة و يجعلك تنظر في أعيننا ، أيها الفساد، و أنت تنهب الوطن و تسرقنا و تنهش انتقالنا الديمقراطي دون خوف أو خجل أو حياء . اللافت أن البعض، وكلما تمت محاولة تسليط الأضواء الكاشفة على موقع من مواقع الفساد ، يشهر تلك الورقة البئيسة للوطنية الزائفة و يسلك الأروقة البالية للتودد المغشوش .و رغم الترسانة الدستورية و القانونية و المؤسساتية ، يبقى الفساد يضطرد و يتنامى و يزداد تعقيدا و تتعدد منافع أصحابه و طرق اشتغال القائمين عليه و يضرب قواعد الوصول إلى الموارد و التوزيع العادل للثروة و قدرات استغلال الإمكانيات و الكفاءات لتحقيق التنمية ، لذلك فمن الرجح أن تتصدر الحرب عليه قائمة الأولويات في أجواء انبعاث التعبئة الوطنية و النفس الإصلاحي و إشارات بدايات العهد الجديد .
رغم ملمة الزلزال و ما ترتب عنه من خسائر و نتائج و صروف الظهر ، فإن المواصفات القيادية و التقديرات الجيو-سياسية و الجوانب الإنسانية التي أبان عنها الملك و القدرات الاستثنائية و التعبئة الشعبية و المشاعر الوطنية التي أفصح عنها المواطنون ، إن هذا وغيره ، لمن شأنه تحويل المحنة إلى لحظة وقوف لاتخاذ القرارات الكبرى . فلقد باتت كل فرص تقييم دقيق لما أنجز و كافة أدوات نقد ذاتي بناء و جميع إمكانيات إعادة صياغة الانتقال الديمقراطي و المسار التنموي و الاختيارات السياسية و التوجه الحقوقي للبلاد مكتملة لإصابة الأهداف . أكيد أن المصاب جلل ، إلا أن المغرب ، بمؤسسته الملكية و بشعبه و بإمساكه الخيط الناظم للخيار الديمقراطي ، سيتمكن من تجاوز الضربة بجلد و اقتدار و سيعزز البناء في العمران و السياسة و التنمية و الحقوق و العلاقات الدولية و الاستقرار الاستراتيجي . من المتوقع ، إذن ، أن تتسارع دينامية الإصلاح و الأمل و التشييد و من البديهي أن تكبر انتظارات الناس من جديد .
هذا هو المرجح ، في تقديرنا ، و هكذا يكتب هذا البلد التاريخ لمن يريدون أن يقرؤوه…
خالد فضيل
كاتب رأي في السياسة و الاقتصاد