السلطة الرابعة

رئيس التحرير الدكتور عزت الجمال يكتب: تطويع الدين في المغرب: وزارة الأوقاف بين قبضة الأمن وظلال التطبيع


منذ سنة 2002، يجلس أحمد التوفيق على كرسي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب، محتفظًا بمنصبه طيلة ثلاثة وعشرين عامًا، وهو ما يجعله من بين الوزراء الأكثر استمرارية في تاريخ الحكومات المغربية الحديثة. مرّت خمس حكومات، وتعاقب على رئاسة الوزراء إدريس جطو، عباس الفاسي، عبد الإله بنكيران، سعد الدين العثماني، وأخيرًا عزيز أخنوش، لكن وزير الأوقاف ظل في مكانه وكأن المنصب حكرٌ عليه وحده.
الغريب أن الرجل ليس فقيهًا ولا مفتيًا ولا من كبار علماء الشريعة، بل مؤرخ وروائي. ومع ذلك، تحوّل مع مرور الوقت إلى حارس البوابة الدينية للمملكة، وملكٍ صغير على “عرش الأوقاف”، يضبط تفاصيل الحقل الديني بدقة، ويحدد ما يقال وما لا يقال على المنابر. وهكذا تحولت الوزارة، شيئًا فشيئًا، من مؤسسة روحية يفترض أن تهتم برعاية الدين إلى جهاز ذي طابع أمني يمارس الرقابة على الخطباء والأئمة ويوجه خطبهم بدقة.
توحيد خطب الجمعة: روحٌ ضائعة ورسالة رسمية
من أبرز القرارات التي جسدت هذه السيطرة هو توحيد خطب الجمعة في مختلف مساجد البلاد. فقد كانت الخطبة في السابق مناسبة روحية واجتماعية يتفاعل فيها الخطيب مع هموم الناس، يتحدث عن مشاكلهم، ويستحضر القضايا الكبرى للأمة الإسلامية. لكن منذ قرار التوحيد، تحولت الخطبة إلى نص مكتوب سلفًا، يرسل إلى الخطباء كل أسبوع، فيصبح الخطيب مجرد قارئ أو “مذيع” يتلو ما يُملى عليه.
هذا التوجه أفرغ الخطبة من بعدها الروحي، وخلق حالة من الجفاء بين المنبر والمصلين، الذين وجدوا أنفسهم أمام خطب باردة، مواضيعها بعيدة عن قضاياهم اليومية وعن حرارة الإيمان التي اعتادوا أن يعيشوها في بيوت الله. ولعلّ أكبر مفارقة هي أن وزارة الأوقاف والمجلس العلمي الأعلى بررا التوحيد بضرورة ضبط الخطاب الديني وتوحيده، وكأن المغرب في حالة حرب تستدعي خطابًا موحدًا مثل بيانات التعبئة!
خطوط حمراء على المنابر
لم تقتصر سياسة الوزارة على فرض نصوص موحدة، بل وضعت قائمة طويلة من الممنوعات والخطوط الحمراء:
لا حديث عن الزنا أو الفساد أو الرشوة أو المحسوبية إذا كان ذلك قد يحرج مصالح الدولة.
لا مجال لـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان المنكر مرتبطًا بجهات نافذة أو مصالح رسمية.
والأدهى من ذلك: منع الخطباء من الدعاء لفلسطين وغزة في ظل العدوان والحصار، وكأن الدعاء جريمة في زمن التطبيع.
وهنا يظهر التناقض الصارخ: الملك محمد السادس نفسه يترأس لجنة القدس، لكن وزارته تمنع الأئمة من الدعاء للمستضعفين في القدس وغزة، بحجة أن ذلك “يضر بمصالح الدولة” ويصطدم مع علاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني.
القبضة الأمنية: عودة إلى أسلوب إدريس البصري
الأمر لم يتوقف عند حدود التوجيه والرقابة، بل وصل إلى المتابعات والاستدعاءات الأمنية. فقد جرى استدعاء بعض الأئمة والخطباء الذين لم يلتزموا بالنصوص الرسمية أو تجرؤوا على الدعاء لفلسطين، بل إن بعضهم تعرض لـ الرفد التعسفي، وهو ما خلق حالة خوف ورهبة في صفوف الأئمة.
هذا المشهد يذكّر المغاربة بزمن إدريس البصري، وزير الداخلية في عهد الملك الحسن الثاني، الذي اشتهر بقبضته الأمنية الحديدية على كل تفاصيل الحياة العامة، بما في ذلك المجال الديني. اليوم، يبدو وكأن وزارة الأوقاف أعادت إنتاج السياسة نفسها ولكن بلباس جديد، حيث تحولت المساجد إلى فضاءات مراقَبة بعناية، والخطباء إلى موظفين إداريين يقرؤون ما يُكتب لهم.
الدين بين الشعب والدولة

إن أخطر ما في هذه السياسة هو أنها تحوّل الدين من رسالة إصلاح روحي وأخلاقي إلى أداة سياسية تُستعمل لضبط المجتمع. فالمسجد الذي كان منبرًا حرًا للتعبير عن هموم الناس صار اليوم مساحة صامتة، تُفرَض عليها الرقابة، ويُمنع فيها الخطيب من قول كلمة حق.
هذا الوضع يثير تساؤلات مشروعة عند الرأي العام المغربي:
كيف يمكن أن يستمر شخص واحد في قيادة وزارة حساسة كهذه لأكثر من عقدين؟
كيف يُمنع الدعاء لفلسطين وغزة في بلدٍ عُرف تاريخيًا بدعمه لقضايا الأمة؟
وهل يُعقل أن تتحول خطب الجمعة إلى نشرات رسمية تُكتب في مكاتب الوزارات وتُتلى على المنابر؟
والسوال هنا ايضا:أين علماء المغرب؟
يبقى السؤال الأكبر الذي يطرحه الشعب المغربي: أين علماء المغرب؟
لقد عُرف المغرب عبر تاريخه بأنه بلد العلماء والفقهاء، من القرويين إلى الزوايا والمدارس الشرعية، وكان للعلماء دور بارز في توجيه الناس، وفي مقاومة الاستعمار، وفي الدفاع عن قضايا الأمة. غير أن وزارة الأوقاف، ومعها الأجهزة الأمنية، أضعفت مكانة العلماء الحقيقيين، فإما أن يُستَخدموا كأدوات لتبرير السياسات الرسمية، أو يُقصَون ويُهمَّشون ويُمنعون من المنابر.
الكثير من العلماء الأحرار جرى إسكاتهم، بعضهم عبر الإبعاد عن الخطابة، وبعضهم عبر الضغط والتضييق، حتى صار المشهد الديني في المغرب فارغًا من الأصوات المستقلة. وبذلك تحقّق للوزارة ما يشبه “إخصاء العلماء”، فلا صوت يعلو فوق صوت النصوص الرسمية، ولا مكان للعالم الحر الذي يصدع بالحق.
إن غياب العلماء اليوم هو جرح عميق في جسد الأمة المغربية، لأن الأمة بلا علماء أحرار تفقد بوصلتها، وتتحول المنابر إلى مجرد مكبرات صوت لقرارات سياسية.
الخلاصة
لقد أصبح واضحًا أن وزارة الأوقاف لم تعد مؤسسة دينية بقدر ما أصبحت جهازًا أمنيًا بلباس ديني. وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا حول مستقبل الدين في المغرب: هل سيظل أداة بيد السلطة، أم أنه سيعود يومًا إلى مكانه الطبيعي كمرجع روحي وأخلاقي للشعب؟
إن الشعب المغربي، المعروف بتمسكه بدينه وبقضاياه العادلة، لن يقبل أن يُختزل الإسلام في خطب موحّدة وباردة. ولن يقبل أن يُمنع من الدعاء لإخوانه في غزة بحجة التطبيع. فالدين أسمى من أن يُطوّع لخدمة السياسة، والمنبر أكبر من أن يتحول إلى ميكروفون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى