السلطة الرابعة

رئيس التحرير د. عزت الجمال يكتب: المغرب على صفيح ساخن…الريف وأزمة العقل السياسي المخزني

الريف وأزمة العقل السياسي المغربي
ما يحدث في الريف ليس مجرد احتجاجات محلية، بل مؤشر عميق لأزمة العقل السياسي المخزني. هناك تسلط وشطط في ممارسة السلطة، والتعامل مع المواطنين يتم وكأنهم رعايا وليس مواطنين، محرومين من حقوقهم الأساسية.
الاحتجاجات في الريف كانت سلمية ومشروعة بالكامل، مطالبها اقتصادية واجتماعية: مستشفيات، مدارس، جامعات، فرص عمل، وبنية تحتية، بهدف رفع التهميش عن المنطقة التي ظلّت عقودًا ضحية سياسات الدولة الممنهجة.
وفي ظل غياب الحكومة الفعلية والركود السياسي، تزايدت قوة الاحتجاجات، وبعد تشكيل الحكومة الجديدة، واجهت مطالب شعبية ضخمة، مما أدى إلى ارتباك إداري وسياسي في التعامل مع الحراك.
دور الحكومة والأجهزة الأمنية
بعد إقالة محند العنصر، رئيس حزب الحركة الشعبية السابق، تولى عبد الوافي أبو فتّت وزارة الداخلية، وقامت الأجهزة الأمنية بقيادة عبد اللطيف الحموشي واستعلامات العامة بإدارة ملف الريف. لكن كل الإجراءات المتخذة زادَت الأزمة تعقيدًا:
صدرت أحكام قاسية بحق ناصر الزفزافي ورفاقه، بما فيها 20 سنة سجناً، مما جعلهم رموزًا وبطلاً في أعين الريفيين.
تصاعد الاحتقان بعد وفاة والد ناصر الزفزافي، وتحولت الحسيمة إلى بؤرة غضب شعبي واسع.
الاعتداءات الأمنية على أبناء الريف أظهرت غياب مقاربة سياسية وحرص الأجهزة على التصعيد بدل حل الأزمة.
هذه الأحداث توضح أن العفو وملفات المعتقلين لا تخضع للملك مباشرة، بل للأجهزة الأمنية، التي تسعى غالبًا لحماية مصالحها ونفوذها، مما يعكس خللاً عميقًا في إدارة الدولة.
بين الريف والصحراء: دور إدريس البصري
تاريخيًا، لعب ادريس البصري، وزير الداخلية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، دورًا استثنائيًا في الملفات الحساسة، خاصة ملف الصحراء المغربية.
كان بيده القدرة على حل النزاع سلمياً، عبر التفاوض مع الصحراويين في كوبا وإرسال الأموال للتسوية السياسية.
لكنه لم يفعل، بل سعى إلى تثبيت الملك الحسن الثاني تحت طوعه ونفوذه، وهو نموذج يوضح كيف أن الأجهزة السياسية كثيرًا ما تصب في مصالحها الخاصة على حساب الشعب والدولة.
أزمة العقل السياسي المغربي
المشكل ليس في الريف فقط، ولا حتى في الصحراء، بل في انفصام العقل السياسي بين العقل المخزني التقليدي والمظاهر الحداثية.
مؤسسات الدولة الحديثة، مثل البرلمان والمجالس المنتخبة، مجرد واجهة توهم بالسلطة، بينما القرار الفعلي يبقى بيد النخب المخزنية، التي تصر على مصالحها الخاصة وتتقاتل داخليًا على المناصب والثراء، مع تجاهل مصالح المواطنين.

الدولة لم تُبنى لدولة مؤسسات، بل لدولة “أوامر”، حيث المواطن رعية وليس مواطنًا صاحب حقوق.
هذه الثنائية بين المخزن والمؤسسات الحديثة خلقت شرخًا كبيرًا بين الشعب والنخب، وأدت إلى احتقان دائم وانفجارات احتجاجية كما في الريف.
التدخلات الدولية ومحاولات الانفصال
الوضع في المغرب لم يعد قضية محلية فقط؛ العالم يراقب، خاصة مع تنظيم كأس العالم وتواجد أعين المسؤولين الدوليين.
هناك محاولات من قبل أعداء الوحدة الوطنية، خصوصاً بعض الأطراف في الجزائر، لدفع الريف نحو الانفصال.
رغم كل التحديات، الوطن واحد من طنجة إلى الكوبري، والوحدة الوطنية فوق كل اعتبار.
التحدي الحقيقي يكمن في غياب رجال الدولة القادرين على إدارة الأزمات بعقلية وطنية، بدل ترك الملف في يد الأجهزة الأمنية التي قد تسعى لإذكاء الفوضى تحت ذريعة “الأمن”.
ناصر من قلب الريف: كلمة تهز الوطن
في صباح يومٍ محمل بالحزن والفقد، اجتمع أهالي الريف وعدد من المواطنين من مختلف مناطق الوطن، ليشاركوا في مراسم دفن والد ناصر.
هنا، وقف ناصر، ليس كابنٍ يودع والده فقط، بل كصوت يمثل وجع الريف وكل المواطنين الذين يناضلون من أجل الكرامة والعدالة.
شدد على أن حديثه ليس باسم الريف وحده، بل باسم الوطن كله.
تحولت مراسم الجنازة إلى منصة تعكس فيها الألم الشخصي الانكسار الجماعي، وتصعد فيها المطالب بالعدالة والإنصاف.
أثبت أن الكلمة سلاح حقيقي قادر على تحريك الوجدان وكسر الحواجز بين المناطق.
دعا صراحة إلى التلاحم الوطني والاعتراف بالحقوق والاستماع لصوت الشعب.
لقد حول حزن الجنازة إلى رسالة وطنية، لتؤكد أن الريف لا يتحدث لنفسه فقط، بل يمثل روح الوطن ومصيره، وأن صوت الحقيقة والكرامة أقوى من أي حزن.

خاتمة وطنية: الأزمة الراهنة
اليوم، المغرب يقف على حافة أزمة حقيقية:
الاحتقان الاجتماعي والسياسي يتصاعد، والتفاوت بين النخب المخزنية والشعب العادي يتسع.
الأجهزة الأمنية والسياسية تتصرف وفق مصالحها الخاصة، بلا رؤية إصلاحية واضحة.
ملفات مثل الريف والصحراء تكشف عيوب العقل السياسي المخزني، وعجز الدولة عن إدارة الأزمة بشكل حضاري وسلمي.
لكن من قلب هذا الاحتقان، يعلو صوت الشعب وصرخة الريف، كما عبّر عنها ناصر الزفزافي، لتذكّر الجميع بأن العدالة والكرامة لا يمكن إخمادها بالقمع، وأن التغيير ممكن فقط بالاستماع للمواطنين وبالحوار الجاد والمسؤول.
إن الأزمة الراهنة ليست مجرد حوادث محلية، بل مؤشر على الحاجة الملحة لإعادة بناء علاقة الدولة بالمواطن، لتفادي الانفجار، ولضمان مستقبل المغرب بأمان واستقرار وعدالة اجتماعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى