رئيس التحرير د.عزت الجمال يكتب: انسحاب جماعي يهين نتنياهو في الأمم المتحدة… الشعب والدبلوماسية يردّان بغضب

في لحظةٍ لا تُنسى على أرض الأمم المتحدة في نيويورك، ارتفعت القامات وعلت الأصوات وصاح الزائرون: لا مكان لمن يبيع القتل بعرشٍ دولي. انسحاب جماعي من قاعة الخطاب — دبلوماسيون، منظمات حقوقية، ناشطون، وفنانون — كان أقوى كلمة يمكن أن تُقال في وجه من يُحمّلهم كثيرون مسؤولية دماء الأطفال ودمار المدن: نتنياهو.

لم تكن المشهدية مجرد احتجاج سلمي اعتيادي؛ بل كانت قرارًا سياسياً ذا مضمون تاريخي: عندما تتحوّل المنابر الدولية إلى مسرحٍ شرعي يقدّم للجلاد روحهَ، يصبح الانسحاب إعلانَ فضحٍ أكبر من أي كلمة. فالانسحاب الجماعي، بصيغته المنظمة والهادفة، أهان خطابًا جاء ليقوّي رواية القوة ويرسم صورة شرعية لعدوانٍ يستنزف الإنسانية.
“قاتل الأطفال!” — ليس حكماً قضائياً بل صرخة ضمير
في لحظة انسحاب الوفود، علت هتافات المتظاهرين بالحناجر: “قاتل الأطفال!”، “مجرم الحرب!” — عبارات يرددها المحتجون، ويقينهم مُعلن، ويؤكّدها عشرات تقارير حقوقية، ويطالبون بمساءلة دولية فعلية. لا نُدّعي هنا صدور أحكام قضائية نهائية، لكن لا يمكن تجاهل أنّ الاتهامات وثّقتها مؤسسات ومنظمات دولية وصحافة ميدانية، وأن ملايين الضحايا وأهلهم يطالبون بالعدالة.
هذه الهتافات ليست مجرد كلامٍ حادّ؛ هي صرخة تاريخية تُذكّر العالم بأن الشرعية لا تُمنح لمن يَرتكب المجازر، وأنّ الألقاب الرسمية لا تبرئ من الدماء.

انسحاب دبلوماسي: رسالة سياسية لا تُردّ
انسحاب السفير هنا أو هناك، أو مغادرة وفود بلاد بأكملها للقاعة أثناء خطاب نتنياهو، هو فعل رمزي ذو قوة سياسية هائلة. الرسالة واضحة: لا نعترف بشرعية خطابٍ يُغطّي على العنف، ولا نسمح لازدهار سلاح الدعاية في وجه صور الأطفال المشوهين، ولا لمسرح الصراع أن يستمر بلا مساءلة.
هذا الانسحاب ليس دعوة للعنف، بل لفرض المعايير: إذا لم تُحمِ المنظمات الدولية المدنيين، فستكون الشعوب والدبلوماسية الضاغطة هي التي تقيم معيارًا جديدًا للشرعية.
منبر الإعلام والشوارع: تكثيف الضغط حتى المحاكمة
الانسحاب يجب أن يُتلوه إجراء عملي: توثيق واسع، حملات ضغط دبلوماسية، فرض حظر أسلحة، ومطالب قضائية أمام محاكم دولية أو هيئات تحقيق مستقلة. عندها يتحوّل الانسحاب من فعالية رمزية إلى خطوة أولى في مسار مساءلة حقيقي.
الخطاب الثوري الذي ارتفعت به أصوات الناس في الميادين — “هذا قاتل أطفال” — يجب أن يتحول إلى لائحة مطالب ملموسة: فتح تحقيق دولي مستقل، تعليق تراخيص تصدير السلاح، ومقاضاة المسؤولين عن جرائم حرب إن أمكن. هذا هو جوهر أي حركة تضامن فعّالة لا تكتفي بإدانة بل تطالب بتحرك.
لماذا الانسحاب يعيث إحراجًا لا يُمحى؟
يفضح النفاق الدولي: حضوره داخل القاعة وكلامه العلني يوفّر له غطاءً سياسيًا؛ الانسحاب يقطع هذا الغطاء ويجعل من وجوده مشهدًا مخزيًا.
يرفع من معنويات الضحايا: رؤية دول وحركات ومؤسسات ترفض المشاركة في المشهد تهون على أهل الضحايا ذلّ الانتظار الطويل للعدالة.
يفتح الباب أمام إجراءات فعلية: الانسحاب يخلق شرعية سياسية لفرض عقوبات، وتجفيف منابع الدعم العسكري والمالي.
يُعرّي الخطاب الإعلامي: حين تترك القاعة، يصبح خطابك أقل وقعًا؛ يبقى صوت الشارع أقوى من كلمات المايكروفون.
دعوة للشعوب والدبلوماسيين: ازرعوا الانسحاب ولا تكتفوا به.
الانسحاب الجماعي في الأمم المتحدة يمكن أن يكون البداية. ندعو كل الحكومات الشريفة، وكل دبلوماسي واعٍ، وكل منظمة حقوق إنسان، وكل ناشط وصحفي وصوت حر، إلى تحويل هذا الفعل الرمزي إلى مسارٍ ضغطٍ متواصل:
إغلاق أنابيب التمويل العسكري؛
مقاطعة المؤتمرات والمنابر التي تُعطي الشرعية لمرتكبي الجرائم؛
إنشاء ملفات تحقيق دولية موثوقة ومستقلة؛
دعم الإعلام الحر والمتضررين لنقل الحقيقة بلا تلوين.

خاتمة: الانسحاب رسالة تُكتب في التاريخ
في عالم حيث تُقاس السلطات أحيانًا بعدد التحالفات والبيانات الرسمية، يظل الحكم الحقيقي في قلوب الشعوب. الانسحاب الجماعي من منصة الأمم المتحدة ليس لحظة هوجاء، بل هو قرار أخلاقي وسياسي: رفض للتواطؤ، إعلان تضامن مع الضحايا، وتأسيس لمرحلة جديدة من المساءلة.
إن كنّا نريد أن نُعيد للحكمة التي استُخدمت في بناء النظام الدولي معناها، فعلينا أن نُعلّم حكّامَ العالم درسًا واحدًا: لا شرعية لمن يلطّخ صفحة التاريخ بدماء الأطفال. وعلى المآذن والميادين أن تُكمل المسار حتى تُصبح الكلمة الأخيرة للعدالة، لا للدمقراطية المُزيفة.
