رئيس التحرير د. عزت الجمال يكتب: غزة لا تحتفل بل تكتب تاريخ الأمة من تحت الركام…الحقيقة بعد الدخان: من صنع النصر ومن تاجر بدماء غزة؟

بين أنقاض البيوت المدمرة وركام الشوارع المحترقة منذ عامين، وقفت غزة شامخة، صامدة، تكتب تاريخ الأمة بدمائها وعزم أهلها، دون أن تنتظر أحدًا ليصفق لها أو يرفع اسمها على ألسنة الإعلام الرسمي. بينما تتسابق بعض العواصم العربية للترويج لما يسمونه “نجاحات دبلوماسية” أو “وساطات ناجحة”، يكشف الواقع أن النصر لم يصنعه من أعلن نفسه بوساطات أو بيانات، بل من حمل على عاتقه المعاناة والصمود، وواجه آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة بأعتى الأجهزة الاستخباراتية العالمية.

من قتل النساء والأطفال، ومن دمر المعابر وأغلق قنوات المساعدات، ومن اعتقل أبناء الشعب الفلسطيني داخل غزة وخارجها باسم “الأمن القومي”، لم يكن له دور في هذا النصر. بل كانت غزة وحدها، بسواعد أهلها، وبصمود مقاتليها الأبطال، من استطاعت الوقوف في وجه آلة الإبادة. واليمن صمتت، لبنان لم تتباهَ، وإيران لم تتفاخر، بينما بعض الأنظمة العربية وإعلامها حاولوا نسب النصر لأنفسهم، ليصنعوا صورة مضللة عن “جهود الوساطة”، في الوقت الذي لم يطلقوا طلقة واحدة أو يرفعوا علمًا حقيقيًا للدفاع عن غزة أثناء الإبادة.
الغريب أن الإعلام الرسمي في مصر حاول تصوير الرئيس عبد الفتاح السيسي على أنه من أوقف الحرب، وكأن غزة بحاجة لموافقته أو تصريحاته لتعيش، بينما الواقع يقول إن ما حدث في غزة هو معجزة المقاومة بحد ذاتها. منذ عامين، وقفت المقاومة في مواجهة الاحتلال، بمفردها تقريبًا، ضد جيش مدجج بأحدث الأسلحة وأجهزة الاستخبارات، بينما العالم كله، بما فيه أقمار التجسس الغربية والعربية، كان يراقب وينسّق مع الاحتلال ضد أهل غزة.

غزة لم تنتظر أحدًا. لم تحتج وساطةً لتنتصر، ولم تتوسل أحدًا ليوقف القصف. صمدت بصمت، وأرادت أن تكتب التاريخ، وأن تبرهن على أن الأمة تستطيع الصمود رغم الخيانات، وأن النصر الحقيقي ليس لمن يرفع صوته على المنابر، بل لمن يدافع عن حقه بثبات.
خلال العامين الماضيين، لم يكن هناك أي توقف من قبل المقاومة في غزة، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي كان يمتلك كل الأدوات: جيش متطور، دعم أمريكي مباشر، أقمار تجسس، وأجهزة مخابرات عالمية، كلها موجهة لمهاجمة أهل غزة وإسكات صوتهم. ومع ذلك، لم يتمكن الاحتلال من كسر إرادة غزة، ولم يفرض شروطه المهينة على سكانها.
هذا ما يجعل معركة غزة فريدة تاريخيًا وعسكريًا: القوة المادية الكاسحة لم تتمكن من التغلب على إرادة شعب صغير، لكنها متحدّة وموحدة في الدفاع عن أرضه وكرامته. وفي الوقت نفسه، أصبح واضحًا أن بعض الدول العربية والإعلام الرسمي لم يقف مع غزة، بل كانت تتحرك وفق أجندة سياسية داخلية، أو لخدمة مصالح شخصية، على حساب دماء الأطفال والنساء.
وقف إطلاق النار لم يكن نهاية القصف، بل بداية لوعي عالمي جديد. وعي كشف زيف بعض التصريحات الإعلامية، وأظهر أن الذين حاولوا نسب النصر لأنفسهم لم يكن لهم أي دور حقيقي. غزة وحدها صنعت المعجزة، وصمودها ألهم أحرار العالم، وفتح أعين الرأي العام الدولي على الحقائق المخفية وراء الستار.

حتى الولايات المتحدة نفسها، والتي دعمت الاحتلال بشكل واضح، لم تستطع تجاهل قوة المقاومة الفلسطينية. تصريحات ترامب وعشرات المسؤولين الأمريكيين لاحقًا أقرّت بأن غزة صمدت في مواجهة أقوى آلة حربية في المنطقة، وأن الاتفاق على وقف النار كان إنقاذًا لإسرائيل وليس نصراً دبلوماسياً عربياً كما يروج البعض.
هذا يكشف الدرس الثاني: أن القوة الحقيقية ليست في المال أو السياسة، بل في الصمود والالتزام بالقضية. غزة علمت العالم أن الشعب الموحد لا يمكن تجاهله، وأن العدالة لا تتحقق إلا بوعي الجماهير وثباتها على الحق.
التواطؤ العربي والدولي ظهر بوضوح: من أغلق المعابر ومنع وصول المساعدات، ومن سمح بإرسال الأسلحة للاحتلال، ومن اعتقل من رفعوا علم فلسطين داخل حدود بلدانهم، كل هؤلاء أصبحوا جزءًا من المشهد الكارثي الذي حاول الاحتلال استغلاله. لكن غزة لم تنتظرهم، ولم تُضعفها السياسة أو الخيانات، بل زادت من عزيمتها.
الدرس الثالث يكمن في القدرة على تحويل المعاناة إلى صمود وإبداع: تحت الحصار، استمرت شبكات الدعم الداخلي، واستُخدمت الأنفاق والبنية المحلية للمقاومة للحفاظ على استمرار الحياة، رغم كل محاولات الاحتلال لتدميرها. هذه الأنفاق والطرق كانت شريان الحياة، ومن أغلقها أو حاول الاستفادة منها سيظل في ذاكرة الشعب الفلسطيني في الجانب المظلم.

أما فيما يخص بنيامين نتانياهو، فقد فشل فشلًا مبكرًا في تحقيق أهدافه. بعد ساعات قليلة من تصاعد الأحداث، استطاع الفلسطينيون الحفاظ على كرامتهم، واسترداد ما تيسر من الأسرى، وحماية المدنيين قدر الإمكان. ومع إعلان وقف النار، أصبح من الصعب على نتانياهو العودة للحرب بنفس المستوى، خصوصًا أن الجانب الأمريكي لن يسمح بذلك، وهو ما يعكس عدم ثقة الإدارة الأمريكية به. إرسال 200 ضابط أمريكي إلى إسرائيل لمراقبة تطبيق وقف النار على أرض الواقع والتأكد من انسحاب القوات من غزة يعكس هذه الحقيقة.
بالرغم من أنه قد يحاول من حين لآخر شن عمليات محدودة، وربما تصعيدات محلية في غزة أو في مناطق مثل لبنان، إلا أن العودة إلى حرب شاملة تبدو مستحيلة. الأسباب واضحة: التضامن الدولي الكبير مع غزة، الصمود البطولي للشعب الفلسطيني، والخسائر الجسيمة التي تكبدتها إسرائيل، بما يفوق ثلاثة أضعاف ما خسرته في حرب 1967 ضد ثلاثة جيوش عربية، مع أضرار اقتصادية تجاوزت 100 مليار دولار، وهو ما لم تستطع الولايات المتحدة تعويضه بالكامل، ما يضع إسرائيل في أزمة اقتصادية وعسكرية حقيقية.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة تحت الحصار، بل رمز عالمي للكرامة الإنسانية، ودليل على أن الحق يصنع من الثبات، وأن الشعب الموحد لا يمكن قهره مهما عظمت القوى. الدماء، الصمود، والأرواح التي ضحت في غزة، كلها تكتب قصة جديدة للعالم: أن الحرية والكرامة لا تُشترى، وأن الإرادة الصلبة للشعب الواحد تستطيع تحدي كل الطغاة.
ولا يمكننا أن ننسى فشل بعض الدول العربية، خاصة النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، الذي حاول التسويق الإعلامي بأنه الوسيط الذي “أوقف الحرب”، بينما الحقيقة أن هذا النظام أغلق المعابر، عطل وصول المساعدات، واعتقل الفلسطينيين من أتباع المقاومة داخل مصر، وعاون أمنياً واستخباراتياً مع الاحتلال الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى. هذا التواطؤ العربي والتمثيل الإعلامي المكشوف يوضح حجم النفاق السياسي الذي حاول استغلال مأساة غزة لمصالح داخلية.
غزة لم تطلب شكرًا، بل ألهمت العالم أن المقاومة ليست مشروعًا سياسيًا، بل حق أمة في الدفاع عن نفسها. من تحت الركام والدمار، تصنع غزة المعجزات، وتثبت أن الشعب إذا تمسك بكرامته وحقه، فإن كل الجيوش مهما عظمت، لا تستطيع كسره.

غزة اليوم تكتب تاريخ الأمة بصمودها ودماء شهدائها. فشل نتانياهو المبكر، والتضامن الدولي، والصمود البطولي للشعب الفلسطيني، والخسائر البشرية والاقتصادية الكبيرة لإسرائيل، كلها تؤكد أن النصر الحقيقي صنعه أهل غزة وحدهم. كل محاولة للادعاء بفضل وساطة أو قيادة خارجية هي مجرد خداع، بينما الحقيقة تتحدث بصوت الدم والركام والصبر الفلسطيني.
