أخبار وطنية

أحزاب اليسار المغربي بين واقع التشتت وحلم التوافق

تتجدد محاولات لم شتات اليسار في المغرب من خلال مبادرات عدد من الأحزاب التي تنتمي إلى صفوفه بمختلف خلفياته الأيديولوجية واصطفافاته السياسية بغية تشكيل قوة وازنة في البلاد تعيد “الأمجاد” في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

وعاد الحديث من جديد عن “حلم توحيد بيت اليسار المغربي” بعد اجتماع مفاجئ قبل أيام قليلة جمع بين أحد أكبر حزبين يساريين يتموقعان حالياً في خندق المعارضة وسبق لهما أن شاركا في حكومات سابقة، وهما حزب التقدم والاشتراكية وحزب الاتحاد الاشتراكي.

مد وجزر

يمكن تقسيم أحزاب اليسار في المغرب إلى صنفين رئيسين، الأول “يسار راديكالي” أو “يسار جذري”، والذي يرفض المشاركة في السياسة من استحقاقات وانتخابات تشريعية ورفض ما تسميه “الدساتير الممنوحة” التي لا تنبثق من إرادة الشعب”، وفق رؤية هذه الأحزاب. والقسم الثاني من الجسم اليساري في المغرب هو “اليسار” الذي يشارك في هذه الانتخابات البلدية والبرلمانية، والتي أفضت في أكثر من محطة إلى مشاركة أحزاب يسارية في حكومات متوالية أو الاصطفاف في صفوف المعارضة.

وشهد حضور اليسار المغربي مداً وجزراً منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي إلى اليوم، تحكم فيه عديد من العوامل السياسية الداخلية، وبخاصة علاقة الدولة مع هذه الأحزاب والتيارات السياسية التي تتوافق مع الأيديولوجية اليسارية.

وفي حقبة الستينيات إلى حدود الثمانينيات من القرن الـ20 كانت العلاقة بين أحزاب يسارية والسلطة في المغرب تتسم بنوع من الندية و”شد الحبل” بين الطرفين، حيث كل طرف كان يحاول أن يفرض نفسه، فالدولة كانت تسعى إلى إثبات قوتها، خصوصاً بعد نيل البلاد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، وأيضا في سياق تجارب مريرة لمحاولات انقلاب فاشلة ضد العاهل الراحل الحسن الثاني، بينما كانت تيارات يسارية تعمل جاهدة لاقتلاع الاعتراف السياسي وتحقيق مطالبها السياسية.

وفي التسعينيات عرف مسار أحزاب اليسار نقلة نوعية تاريخية، بعد أن تمكنت أحزاب يسارية من قيادة التجربة الحكومية، فيما سمي بحكومة التناوب عام 1998 بقيادة الزعيم اليساري الراحل عبدالرحمن اليوسفي لتنطلق المشاركة في الحكومات المتلاحقة، وأحياناً التخندق في صفوف المعارضة بحسب نتائج الانتخابات التشريعية.

تلاشى توهج الأحزاب اليسارية في حقبة التسعينيات على وجه الخصوص تدريجاً في الألفية الثالثة بسبب عوامل ذاتية وموضوعية عدة، فالذاتية تتمثل في الخصوص في عقلية حب الزعامة التي تهيمن على سلوكات قيادات يسارية، من ثم تجهض آمال التوحد ولم الشمل، وأما الموضوعية فتكمن في واقع التشرذم والانقسامات التي تسيطر عليها، وأيضاً الخطاب النخبوي “التقليدي” الذي تتمسك به في خضم واقع مجتمعي متحول يتطلب التكيف مع المستجدات وتغيير المصطلحات ومرونة المواقف والأيديولوجيات.

هاجس الانتخابات

وفي العام الماضي تنامت آمال اليساريين في المغرب بتحقيق حلم “لم الشمل” والتموقع بشكل أقوى داخل الخريطة السياسية بالبلاد، خصوصاً بعد ميلاد “فيدرالية اليسار الديمقراطي”، عبر الوحدة بين حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي، وكذلك الحزب الاشتراكي الموحد، وجهات يسارية أخرى.

وقبل أيام في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 تضاعفت الآمال مجدداً لتشكيل بيت يساري موحد وقوي بعد الاجتماع الذي لم يعلن عن فحواه بين الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بن عبدالله والكاتب العام لحزب الاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر، وهما حزبان ينتميان إلى صف المعارضة البرلمانية.

وعلى رغم عدم اتضاح الصورة من وراء دوافع هذا الاجتماع “المفاجئ” بين القياديين اليساريين، فإن غالب المؤشرات تتحدث عن رغبة في توحيد رؤى وجهود الأحزاب اليسارية ذات التوجه المعارض للحكومة الحالية في أفق تشكيل قطب يساري قوي قادر على المنافسة في الانتخابات المقبلة.

وفي هذا الصدد يقول الامين العام لحزب التقدم والاشتراكية محمد نبيل بن عبدالله، إن الحاجة باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى ملحة وضرورية لتوحيد صفوف وجهود اليسار المغربي، من أجل مواجهة التحديات المطروحة حالياً ومستقبلاً، ومواجهة المنافسين الحزبيين بمختلف توجهاتهم السياسية وخلفياتهم الفكرية والأيديولوجية. واستطرد بأن اليسار المغربي كان حاملاً في حقب من تاريخ المغرب لمبادئ العدل والحرية والتضحية من أجل حاضر ومستقبل مشرق للبلاد، من ثم أصبح مطالباً حالياً أيضاً بتحمل ذات المسؤوليات الجسيمة، ولن يتأتى هذا إلا بتوحيد الصفوف وتجاوز الاختلافات السياسية بين مكونات اليسار.

ويراهن هذا القيادي الحزبي وغيره من قيادات اليسار على أهمية توحد الرؤى والمواقف والقرارات في أفق تقديم برنامج انتخابي يلبي طموحات “الأسرة اليسارية” والناخبين المغاربة في انتخابات 2026.

شعارات التوحيد

من جهته يقول متخصص العلوم السياسية بجامعة مراكش عبدالرحيم العلام إنه خلال عقود استمر شعار “توحيد اليسار” مرفوعاً من قبل عديد من اليساريين، لا سيما خلال فترات الأزمة المرافقة دائماً للخسارة الانتخابية، لكن ما إن تحين اللحظة التي من المفترض أن يتحول فيها الشعار إلى واقع، حتى تبرز عراقيل كثيرة تحول دون تحقيق هذا الأمل.

وأردف العلام بأن الواقع أثبت أنه بدلاً من أن تتعدد مبادرات لملمة الشتات يحصل العكس، أي إن التمزق والتشرذم هو الذي يتحقق، فقبل الانتخابات السابقة في 2021 انقسمت أحزاب “فيدرالية اليسار” على نفسها، وخاضت الانتخابات بشكل مستقل، وبينما كان العمل على التنسيق بين حزبي التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فإن هذا التنسيق أبى إلا أن يخلف موعده، فاسحاً المجال أمام تدبيرات أخرى، بعضها سبح نحو اليمين الليبرالي والآخر نحو “اليمين الإسلامي”.

وسجل المحلل أنه على رغم أن أحزاب اليسار المشاركة في “اللعبة السياسية” تتقاطع تقريباً في الأيديولوجية نفسها (أي الماركسية العلمية)، ولديها تاريخ مشترك من العمل، فضلاً عن أن مواقفها من القضايا الاستراتيجية (من قبيل المؤسسة الملكية، والصحراء، وغيرهما)، إلا أن ذلك لم يحفزها على الاجتماع في إطار واحد من شأنه أن يساعدها على تحقيق التقدم في الانتخابات والتعاون على التأطير الأيديولوجي ومنافسة الأحزاب الأخرى.

مقوضات التوافق

وتظل العوامل التي تعوق مسعى توحيد اليسار في المغرب، متعددة يلخصها العلام في ما سماه “طغيان الجانب الشخصي الذي يحول دون الانتصار إلى المصلحة المشتركة، فكل شخصية حزبية ترى نفسها أهلاً للقيادة، بينما قد تدفع بها الوحدة إلى احتلال مناصب متأخرة في المسؤولية الوطنية”. وهناك عامل ثانٍ، وفق المتحدث، وهو أن فكرة الوحدة أو التنسيق الانتخابي غالباً ما تجد معارضة في الفروع الجهوية بأرجاء البلاد، لأن التنسيق الوطني من شأنه إضعاف الشخصيات السياسية التي تحترف الانتخابات المحلية والجهوية (البلدية).

وأردف العلام أن فكرة لم الشتات لا تنطلق من ذات حرة مستقلة، وإنما تصدر غالباً عن لحظات الهزيمة، ومن ثم فإن الوحدة تهدف فقط للبحث عن أسباب تحقيق النصر الانتخابي، وليس الاجتماع على فكرة مبدئية، والتعاون من أجل تحقيق الطموح المشترك المتمثل في التأطير والتأثير وكسْب المتعاطفين والمناصرين للفكرة الاشتراكية.

هذا الواقع هو ما يفسر، وفق الأكاديمي الجامعي نفسه، تسجيل تحالفات سياسية هجينة قام بها اليسار في سبيل وصوله إلى التدبير الحكومي منافية لمبادئه من قبيل تحالف التقدم والاشتراكية مع حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) في حكومة عبدالإله بن كيران، وتحالف الاتحاد الاشتراكي (اليساري) مع أحزاب يمينية في حكومة سعد الدين العثماني، وسعيه أخيراً إلى دخول الحكومة التي ترأسها شخصية ليبرالية.

وخلص العلام إلى أنه “لو توفرت الإرادة، وغابت الشخصنة، وتقوت المبدئية على حساب المصالحة الضيقة، فإن تحقيق حلم وحدة اليسار يمكن أن تنتقل من الشعار إلى الواقع، لأن ما يوحد أحزاب اليسار أكثر مما يمزقها، لا سيما في ظل المنافسة الداخلية التي تحتاج إلى تشكيل قوة يسارية موحدة، وأيضاً في ظل عودة اليسار إلى الفعل الدولي في عديد من الدول الأوروبية والأميركية”.


بقلم حسن الأشرف: صحافي وكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى