قصة الساعات .. متحف سويسري يحفظ “عبقرية خمسة قرون”
الساعة دليل عبقرية الإنسان في ترويض الزمن. وإن كانت سويسرية، فهي عنوان دقة وإتقان وتقاليد راسخة في صناعة علامات ذائعة تتهافت عليها معاصم الرجال والنساء عبر العالم. هي، على غرار تلك الساعة العشبية المزهرة بالورود على ضفة بحيرة ليمان، إعلان هوية لجنيف التي تصطف واجهاتها مرصعة بساعات أصبحت قوام الانتماء إلى عالم الأناقة والموضة التي يجب بعضها بعضا.
“باتيك فيليب” (Patek Philippe)، ليس مفردا هذا الاسم الذي يتقلد أجيالا من الساعات الفاخرة، ويحمل روح سويسرا إلى العالم منذ زهاء قرنين. هو قران عبقريتين جمعتا أنطوان نوربير باتيك، السويسري بولندي الأصل، وجون أدريان فيليب، الفرنسي، لتصنعا قصة مجد وابتكار تحرص مدينة جنيف على حفظ تفاصيلها بعناية.
لم يكن لعلامة عابرة للحدود، تتمحور صناعتها حول الزمن، تشحذ قياساته منذ عشرات السنين، تروضه لخدمة عجلة الإنسان المعاصر ولهاثه، أن تغفل تدوين هذا المسار الحافل بالمنعطفات، وادخاره تكريما للأولين، وإثراء جانب مضيء من التاريخ الإبداعي والصناعي للإنسانية.
بعشر فرنكات، يوعد الزائر بجولة إلى أقاصي ذاكرة العلامة الذائعة لباتيك فيليب، بمجموعات مدهشة تلخص زمنا متواصلا من الابتكار والتجديد منذ 1839 إلى 1989، غير أن هذا المتحف الفريد الذي يعكس تجذر الحس التاريخي للفاعل التجاري الصناعي، والثقل الرمزي الذي يعزز الرصيد الرأسمالي للشركة، يتجاوز التوثيق الخاص ليقترح سفرا أبعد في زهاء 500 عام من تاريخ صناعة الساعة عبر العالم.
مبنى بروح كلاسيكية. سجاد أخضر يفرش السلم الرابط بين الطوابق. مصابيح جانبية ونوتات موسيقية خافتة تناسب مقام الرحلة. ممنوع اللمس، ممنوع التصوير… التحف معروضة لمتعة العين ودهشة تدوم وحلم مفتوح على تجارب النجاح القاهرة للسنين، الجديرة بالتأمل. للزائر لوحة إلكترونية مجهزة بسماعات ترافقه من قطعة مرقمة إلى أخرى. ينصح بأن يبدأ الرحلة من الطابق الثالث حيث أرشيف باتيك فيليب. مكتبة عامرة مختصة حصرا في تاريخ صناعة الساعات، صور لرفيقي الرحلة، ووثائق بخط يديهما. هدايا من طينة هذا العطاء الإمبراطوري الموجه إلى باتيك من قيصر روسيا، نيكولا الثاني، براءات اختراع.
تشير محتويات هذا الطابق إلى واحد من أسرار التميز وقوة الأداء لدى هذه العلامة. لقد اقترنت عبقرية المقاول السويسري المتمكن من فن التدبير والاستشراف بعبقرية المصمم والمدير الفني الفرنسي. كان باتيك يبحث عن شريك يصاحبه في المهمة والشغف، ووجده على هامش معرض بفرنسا، فانضم إليه فيليب سنة 1845. رحلا وهما على قناعة بأن حبر كتابة القصة لن يجف.
و يحتضن الطابق الثاني مجموعة عالمية عتيقة تعود إلى القرن السادس عشر وصولا إلى 1850، بأزيد من 700 ساعة، تفرق منشأ معظمها بين فرنسا وألمانيا. من ساعات المائدة الأولى (للبيوت) التي تحمل تاريخ 1530 إلى ظهور ساعات الجيب وصولا إلى الساعات اليدوية. لعصر الأنوار ساعاته أيضا، حيث برع صناع جنيف المهرة في الزخارف والأشكال وابتدعوا مصاحبة عمل المحرك بأصوات موسيقية. يصادف المرء اسما بارزا في سلالة ساعاتيي جنيف: جان دو روسو ليس إلا جد جان جاك روسو، المفكر.
تنفتح في الطابق الأول بوابة المغارة العجيبة الخاصة لباتيك فيليب، برصيد من حوالي ألف قطعة تحكي زمنا ممتدا من 1839 إلى 1989. الساعات شاهد عصر. بعضها يوثق لأحداث كبرى، حيث يظل باتيك أسير الحنين إلى بولندا، هو العسكري الذي قاوم الغزو الروسي وفر لاجئا ليحصل على الجنسية السويسرية سنة 1843، فيطرح ساعة تكرم ذكرى “أبطال بولندا”، بينما تحمل ساعات جيب أخرى حرف “النون” الكبير لنابوليون الثالث (1860).
بين الأروقة الزجاجية، تندلع ثورة الساعات اليدوية بقطع تعود إلى 1868، بدأت خالصة لمعصم المرأة قبل أن تتعمم للرجال في غضون سنين. ساعات حائطية من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، قطع مدهشة مرصعة بالماس. يتجاسر المصمم على تكسير الأشكال والأساليب توثيقا لزمن الحداثة وما بعدها، حيث الخروج من سلطة الدائرة والمربع.
من المجموعات الحافظة للقطع المدهشة من نماذج المنتوج النهائي، يؤدي الطابق الأرضي واجب الاحتفاء بذاكرة الحرفة. مسامير، مصابيح تضيء يد الصانع، مطارق صغيرة، أسلاك فضية، براغي، كراسي خشبية وطيئة… ورشة متكاملة من القرون الماضية ظلت محفوظة للأجيال. تتوالى سلاسل الإنتاج من تركيب المواد، إلى نحتها، مرورا بإذابة وتشكيل المعادن في نار الفرن. تتحرك هذه العناصر في الذاكرة أمام صور بالأبيض والأسود لعاملات من القرن الماضي.
كل تفاصيل العمليات التجارية، ابتداء من الساعة الأولى التي باعتها باتيك فيليب، محفوظة في الأوراق. ليس صحيحا أن التجارة عدوة الذاكرة.