اسلاميات

الأسرة والسوشيال ميديا

رئيس تحرير اليوم السابع

الأسرة هي المكون الرئيس للمجتمع، وهي في ديننا الحنيف بنيت على أساس من المحبة والمودة والرحمة كما قال الله تعالى : «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وهذه المودة والرحمة لا تشمل الزوجين فقط ،وإنما تتسع لتشمل العلاقة مع الأبناء ورعايتهم والقيام على شئونهم، وتلك العلاقات تحكمها مبادئ ذات طبيعة أخلاقية ودينية قائمة على معاني البر والمعروف والإحسان، وهي معاني أرحب وأشمل من قاعدة الحقوق والواجبات الضيقة التي لا نحتاج إليها إلا عند النزاع، وعلى هذه المعاني الراقية قامت المجتمعات وبنيت البيوت، وكان تصور الحياة الزوجية بهذه النظرة من عوامل الاستقرار.

وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في العصر الحديث وسهولة عرض الأفكار والتأثير على العقول،انتشرت بعض التصورات السلبية عن العلاقة الزوجية مثل الإلحاح على قضية الحقوق والواجبات، واعتبار أن العلاقة الزوجية قائمة على الصراع بين الرجل والمرأة، وقد ساهمت بعض الأفكار التي تنتشر عبر السوشيال ميديا في محاولة نشر قيم بعيدة عن مجتمعنا وعن ثقافتنا وعن أخلاقنا وعن دينناـ

والسوشيال ميديا مجرد وسيلة قد تستعمل في الخير كما قد تستعمل في نشر غيره، وتولدت حالة من زعزعة الثقة بين الزوجين نشأ عنها عدم الاستقرار وزيادة حالات التفكك الأسري، ولجوء كثير من أبناء الأسر إلى حواضن أخرى بديلة عن الأسرة، وغالبا ما تكون تلك البدائل ذات طبيعة متطرفة أو منحرفة، وهذا هو الخطر الكبير الذي ينبغي الحذر منه.

إن ديننا الحنيف عندما وضع الأسس والقواعد لبناء الأسرة، لم ينظر إلى الأسرة باعتبارها مؤسسة للإنجاب وحسب، بل نظر إليها على أنها مؤسسة للحب والتربية والتعليم والتنشئة الحسنة لإخراج جيل قادر على حمل رسالة الخلافة في الأرض على أحسن وجه وأكمله، وتحقيق مراد الله تعالى من خلق الإنسان بإعمار الأرض وعبادة الله تعالى، ولا يمكن أن تتم هذه المقاصد السامية إلا بتفاني قطبي الأسرة،

وبذل كل ما في وسعهما بحب ومودة ورحمة لأجل إخراج هذه الأجيال الصالحة، إن آيات القرآن الكريم واضحة الدلالة في بناء هذه العلاقة على أساس المعاشرة بالمعروف مثل قوله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وهي كلمة جامعة لكل معاني الخير والبر والإحسان، وتحريم إمساك المرأة بقصد إضرارها دليل على أن الضرر أو الشقاق والنزاع منتف في هذه العلاقة انتفاء تاما، بل إنه مغاير لطبيعتها ومقاصدها، وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة تحث على المعاشرة الحسنة والوصية بالنساء خيرًا في قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا) رواه البخاري

وحث الشرعُ المرأةَ كذلك على البذل والعطاء في سبيل استقرار الحياة الأسرية، وارتبط الزواج بمفهوم الميثاق الغليظ الذي لم يطلق في القرآن إلا على ميثاق النبوة وعلى ميثاق الزوجية، مما يجعل عقد الزواج من أوثق العقود وأشدها قداسة وسموا، وفي هذا الإطار الشرعي والأخلاقي جاءت الضوابط التي تحكم هذه العلاقة في جانبها المادي بتفصيل الحقوق والواجبات الشرعية عند النزاع والاختلاف، ومن غير السائغ

نزعها من سياقها وجعلها أساسًا لبناء الأسرة، فإذا كان قصارى جهد الرجل والمرأة البحث عن حقوق كل منهما كان ذلك خروجًا عن مقصود الزواج وتفريغا له من مضمونه الراقي، واستدعاء آراء الفقهاء المختلفة دون داع في قضية الحقوق والواجبات بين الطرفين هو عدول متعمد عن مبدأ الإلزام الأخلاقي والعرفي الذي يلتزمه كل منهما تجاه الآخر وتجاه الأسرة، فالمرأة حين تلزم نفسها بما يحقق استقرار أسرتها وكمال سعادتها، والرجل حين يلتزم بالواجبات العرفية تجاه امرأته لا يكون ذلك تنازلًا عن حق أو منة لأحدهما على الآخر، وإنما هو استكمال لمقتضيات عقد الزواج التي قصدها الشارع الحكيم ،ولم يقيدها بطريقة محددة أو بإلزام معين ليشجع الناس أن يذهبوا في صنع المعروف واستدامة العشرة كل مذهب، ولتكون تلك الواجبات الأخلاقية نابعة من وجدان كل من الطرفين.

وفي الحقيقة فإن هذه النظرة الجزئية للحقوق والواجبات انحراف في فهم الشريعة لا يختلف كثيرًا عن انحراف المتشددين في استدعاء مسائل ظنية ـ لها مواطنها التي تتنزل عليها أو لها سياقاتها ـ

واعتبارها أساسًا للفهم والتطبيق، وترك النصوص القطعية الحاكمة على تلك الظنيات، كذلك فإن استدعاء مسائل تتعلق بعدم إلزام المرأة أو الرجل بكثير من الواجبات العرفية بحجة عدم وجوبها شرعًا، وعدم اعتبار الآيات الواضحة والأحاديث الصحيحة الصريحة في جعل المعروف والإحسان أساسًا للتعامل بين الزوجين هو انحراف في فهم الشريعة وعدول عن مقاصدها، وخطورته لا تقل عن خطورة الأفهام المتشددة التي تعبث بالشرع الشريف، فهدم الأسرة وتفكيكها بمثل تلك المفاهيم هو هدم للحاضنة الأولى للأبناء، وزعزعة لاستقرارهم النفسي، مما يؤدي إلى سهولة انحرافهم سلوكيًّا أو أخلاقيًّا أو فكريًّا.

إن عودة تلك التصورات القيمية والأخلاقية القائمة على المحبة والأمان والبذل هو الضمان الوحيد لاستقرار الحياة الزوجية ووجود الأمان بين أفراد الأسرة الواحدة، واستحضار مقاصد الزواج الحقيقية يجعل المرأة والرجل يسلكان كل السبل من أجل تحقيق تلك الغاية العظمى من الأمان والسكن والمودة، ويكون صنع المعروف بكل وجوهه أولى عندهم من قصور النظر على مسألة الحقوق والواجبات التي يؤدي استغلالها إلى تحول الحياة إلى صراع دائم، وهو ما يناقض مراد الله في مشروعية الزواج من كمال المحبة والألفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى