دولي

الغضب العربي القادم

عاشت منطقتنا 10 سنوات صاخبة، كانت بدايتها مع انتفاضة تونس شتاء 2010، وتحولت مع بداية 2011 إلى ثورة، أطاحت بالنظام وفرار الرئيس خارج البلاد. عقد ويزيد من الزمن، طُويت معه حقبة من تاريخ العرب المعاصر، والمنطقة، بآلامها وأحلامها.

حصل انطباع عام أن حصاد عقد لم يكن سوى خيبات بعضها معطوف على بعض، أُبرزت فيها الانكسارات وطُمست فيها الانتصارات، واحتفى مناهضو التغيير والإصلاح بخيبات الربيع العربي، تعثرات وخيبات، وهلل الكثير للخروج السريع من ربيع العرب إلى شتائه، ردة عن مسار التغيير والديمقراطية، إلى مسار للاستبداد والدكتاتورية.

10 سنوات أو أكثر بقليل شاع في بداياتها أمل كبير وتفاؤل بأن المنطقة العربية من محيطها إلى خليجها، تدخل مرحلة جديدة عنوانها الإصلاح السياسي، من نظام ديمقراطي تشاركي وحكم رشيد ونهضة اقتصادية وعدالة اجتماعية، انتهت بخيبة عامة، أشاعت حالة من الإحباط والتشاؤم والسلبية والانكفاء والاستقالة. أما الانتكاسة التي عاشتها تونس التي ظل فيها المسار الديمقراطي صامدا أكثر من غيره من المسارات، فبدت صادمة ومخيبة لآمال الكثير؛ انتكاسة وصفها البعض بأنها لحظة أغلق فيها قوس التجربة الديمقراطية في المنطقة.

بيد أنه لا أحد يمكنه اليوم أن يزعم أن المنطقة هي ذاتها قبل 10 أعوام؛ فقد أطيح خلالها بأنظمة عاتية، من ابن علي تونس إلى قذافي ليبيا، مرورا بمبارك مصر وصالح اليمن. ولئن فشلت هذه التحولات في بناء وترسيخ أنظمة ديمقراطية، فإنها لم تبق المجال فسيحا أمام الدكتاتوريات لاستعادة نفوذها المطلق.

تبدو “منظومة الاستقرار والاستمرارية”، تسلطا وتحكّما، حسمت المعركة لصالحها، داعمة لبعضها بعضًا. وقد أدركت بعض الأنظمة أن السبيل الوحيد لمنع أي إرباك لحكمها أو تهديد مصالحها لا يكون بالتصدي لمحاولات التغيير ووأدها في المهد فحسب، بل بالعمل والإصرار على تقويض تجارب التغيير والتحول الديمقراطي، التي حصلت في بعض دول الجوار في المنطقة.

كانت الثورة المضادة رؤية جيوسياسية بامتياز، استهدفت الثورات، فحرفتها وأربكتها ثم فككتها. واستفاد محور الثورات المضادة من ارتياب وتخوف القوى الدولية الغربية من عدم الاستقرار أو المس بمصالحه، ليمضي في هجومه المضاد ضد حركة التغيير مشرقا ومغربا حتى أنهكها ثم قوّضها.

عادت جميع أنظمة العرب اليوم إلى النادي التقليدي، نادي الدكتاتوريات أو منظومة “الاستقرار والاستمرارية”، مديرة ظهرها لفكرة التغيير والتحول. عادت رغم ما يبدو عليها من إعياء وإنهاك، وما تتسم به من رخاوة غير مسبوقة. ولم تقرأ نخبة الحكم في المنطقة أن رافعتها المتمثلة في “الدولة الوطنية”، دولة ما بعد الاستقلال، قد تآكل مشروعها، واهتزت بنيتها، وضمرت فكرة ومشروعا.

لا تكاد دولة اليوم في المنطقة العربية، الغنية منها والفقيرة، تحمل رسالة واضحة، أو تؤطر مواطنيها ضمن رؤية نهضوية محددة، أو تعبئهم خلف أهداف معلومة. دولة بدون رسالة ولا فكرة ولا مشروع، وبنية سياسية متهالكة، وأجهزة بدون روح.
إنه مشهد غير عادي أن ترى مئات المواطنين في دول عربية -في مصر وسوريا ولبنان واليمن وتونس والجزائر وموريتانيا يصطفون في طوابير طويلة من أجل رغيف الخبز والسكر او الطحين تبدو نخب الحكم المبثوثة في نسيج منظومة الحكم التقليدية معاندة للتاريخ، مصرّة على تجاهل المعطيات والتحولات في الواقع. موقف متصلب يخلق تدريجيا حالة من الانفصال الكامل عن الواقع والقطيعة مع تعقيدات المشهد على الأرض، فإذا بدا مستعصيا على التحكم والضبط، بادرت باللجوء للقوة الصلبة لإخضاعه وتطويعه والحقيقة أن المشهد في المنطقة اليوم يختلف تماما عن ما تراه وما تريده أنظمة المنطقة ونخبها.

سياسيا، لم تعد منظومة الحكم السائدة في المنطقة قادرة على القيام بدورها الوظيفي الأساسي في الإدارة المعقولة والمقبولة للشأن العام، حتى في حدوده الدنيا. ويتعمّق عجزها بشكل صارخ عن التعبير عن الإرادة الدنيا لمواطنيها أو تقديم الخدمات الأساسية التي تستجيب لمقتضيات التطور الذي يعرفه العالم. عجز يكاد يهز المرتكزات الأساسية للاجتماع السياسي، ويفكك العقد الاجتماعي الذي يمثل ميثاق المجتمع ورابطته الأساسية.
دول بعد أكثر من نصف قرن على قيامها تآكلت على جميع المستويات، فكرة وأهدافا ورسالة ومؤسسات، ولم يبق منها غير القوة الصلبة أو الجهاز القمعي الذي يحتكر الضغط المسلح، لا للدفاع عن سيادة ولا لحماية حدود ولا لبسط أمن وإنما لتأمين نخبة حكم، تحكم وهي متوارية عن الأنظار. دولة بلغت من الضعف والفشل التنموي حدا جعلها تفرض على مواطنيها الاصطفاف في طوابير للحصول على السلع الأساسية.

قد يمر مرور الكرام، ولكنه مشهد غير عادي أن ترى مئات المواطنين في دول عربية -في مصر وسوريا ولبنان واليمن
وتونس والجزائر وموريتانيا يصطفون في طوابير طويلة من أجل رغيف الخبز أو الطحين، بل الأمر أخطر من ذلك حيث يجد المودعون أموالهم في البنوك أنفسهم غير قادرين على التصرف فيها إلا قليلا، فاضطر البعض من أولئك المواطنين المغلوبين على أمرهم في لبنان، لاقتحام تلك البنوك، لاسترجاع ما أمكن من أموالهم.

الحقيقة أن مشهد البنوك المقتحمة أو الطوابير أمام رغيف الخبز هي عناوين لمشهد دام لواقع منطقة، أدمنت أنظمتها الفشل والعجز والفساد، فتحولت الأوطان الحاضنة إلى أوطان طاردة. فيركب البحر على متن الزوارق السرية للهروب من المنطقة باتجاه الضفة الشمالية حيث الجنة الأوروبية المتخيلة، عشرات الآلاف من الشباب والعائلات، يصل بعضهم آمنين إلى مراكز الاحتجاز. أما سيئو الحظ وما أكثرهم، يبتلعهم البحر إلى الأبد، بينما يلفظ المئات منهم جثثا هامدة، كثير منهم تطمس ملامحهم وهوياتهم فيدفنون في “مقابر مجهولة”.

تلك بعض من ملامح منطقة تدمن جل أنظمتها الفشل في توفير العيش الكريم لمواطنيها، أو في تنمية معقولة تعطي الأجيال الأمل في المستقبل، بل تفعل أكثر من ذلك إذ تعطف ذلك الفشل الشامل على استبداد وتسلط، بقمع الحريات وحقوق الإنسان.

تعتقد أنظمة المنطقة أنها إذ تنجح موقتا في طمس جذوة الانتفاضات العربية وإجهاض حلم الشعوب العربية في التغيير، فقد يستقر لها الأمر، وتتحول كل الأمور تحت سيطرتها هيمنة وتسلطا. غير أن المتأمل في مشهد المنطقة الدامي، سيقف عند حجم الإحباط وخيبة الأمل التي عمت شعوب المنطقة. إحباط بات يعبر عنه البعض عبر الاندراج في كل أشكال الجريمة المنظمة ردا على “الحقرة”، وآخرون عبر ركوب البحر والهجرة السرية “الحرقة”.

هذا الغضب والإحباط، وفي ظل غياب وسائط لتأطير القوى المجتمعية الفاعلة -لا سيما الشبابية منها- بسبب القمع المسلط على الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، سيتحولان إلى قنبلة موقوتة، تنتظر لحظة الانفجار. حيث كل المعطيات تشير إلى أن المنطقة تندفع بشكل متسارع نحو موجة غاضبة، تعكس حجم الإحباط والخيبة واليأس من قدرة الأنظمة القائمة على تقديم الحد الأدنى أو الاستجابة للاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتها، بينما تبدد الثروات الوطنية اختلاسا ونهبا.

فمثال العراق صارخ، إذ يعاني شعبه من التفقير وغياب الخدمات الأساسية، بما في ذلك العجز عن توفير الماء والكهرباء، بينما توثق التقارير نهب وتبديد منظومة الحكم منذ الإطاحة بنظام صدام حسين، لأكثر من 450 مليار دولار. وفي كل مرة تعيد منظومة الحكم هي ذاتها نفسها، مستقوية بمليشيات مسلحة، ونظام سياسي طائفي.

إذ يصنف العراق اليوم من أكثر الدول فسادا ويتأرجح بين قائمتي الدول الفاشلة والأخرى شبه الفاشلة. ولا تبدو سوريا ولا اليمن ولا السودان ولا الصومال ولا مصر ولا ليبيا ولا تونس ولا موريتانيا بالبعيدة عن هذا السياق الكارثي. فسوريا المقسمة بين النفوذ الأميركي من جهة والروسي الإيراني من جهة أخرى، المتحولة إلى ميدان للقصف الإسرائيلي الدوري، بات نظامها الصوري بعد أن شرّد مواطنيه وهجّرهم، مجرد كيان يستمر بحراب إيرانية روسية قوة وبتجارة المخدرات تمويلا.

أما اليمن المنقسم على نفسه، والمقسم نفوذا بين الدول الإقليمية الكبرى فيعيش أسوأ مجاعة في تاريخه، تتفاقم وتنعطف على احتراب أهلي يغذّيه الخارج ويتحكم به. بينما السودان الواقع تحت حكم العسكر المستحكم، تتفلّت أطرافه انفصالا ولا يكاد يطوي أزمتها حتى يعود إليها.

أما مصر، فهي تبدو اليوم واهنة قلقة منطوية ومنكفئة فاقدة لكل ألقها ولا تكاد تبين. فلا وضعها السياسي على ما يرام بسبب النظام الحاكم الجديد بها ووجود عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين في السجون، ولا حالتها الاقتصادية الاجتماعية بخير في ظل غلاء المعيشة وتراكم ديون خارجية وداخلية بأرقام غير مسبوقة تقدر بأكثر من 400 مليار دولار. مصر لم تعد رافعة العالم العربي ووجهته، بل باتت هامشا تُصاغ المنطقة بعيدا عنها، وتوضع ترتيباتها دون اعتبار لها.

وإذا ولّيت وجهك منه مشرقا إليه مغربا، يبدو الوضع صورة أخرى من الأول، ربما لا تكون حال المنطقة المغاربية هي الحال المشرقة تماما، لكن المؤكد أنها صورة من صوره الرثة، وصدى من أصدائه.

اللافت أنه حتى الدول التي تنعم بموارد طبيعية وثروات معتبرة لا تمضي في المجمل في الطريق الصحيح، ولا تعكس سياساتها التنموية إن وجدت تطلعات شعوبها. فالموارد يتم تبديدها في مخططات، ظاهرها تنموي، وجوهر استعراضي، يتم تبديد موارد ضخمة في الإنفاق عليها دون عوائد تذكر ولا آثار ملموسة في حياة المواطن. وهو وضع تدرك شعوب المنطقة حقيقته وتفاصيله جيدا.

وهنا فحال المنطقة حتى إذا أخذت بعين الاعتبار كل العناصر الموضوعية، لا يسعفك بأي أدوات للدفاع عنه، أو تبريره لأن التفريط والتقصير والفشل والعجز عميق؛ “أنظمة متعفنة” (Rotten Regimes) كما وصفتها صحيفة “إيكونوميست” (Economist) البريطانية، لا وجود لأي إرادة لديها للخروج من مأزقها، بل هناك اندفاع نحو تعميق فشلها وإدمان خيباتها.

إن هذا الوضع العربي الدامي لا يبدو قابلا للاستمرار، فهو يراكم أمراضا مزمنة وظواهر خطيرة تبدو بمثابة حالة احتجاجية على تعفن هذا الوضع من فساد ضرب العمود الفقري للدولة واستفحل في مفاضلها. نسيج مجتمعي بات أوهن من بيت العنكبوت، احتقانا وتفككا وعنفا فرديا منفلتا من عقاله وجماعيا عبر جريمة منظمة تكاد تكون التعبير الصارخ للتمرد الجرائمي على الدولة، وانتقاما منها، ولوبيات متقابضة على المؤسسات الحيوية ومتحكمة بها.

لا يمكن لمنطقة يطغى على ديمغرافيتها الشباب أن تقبل بأوضاع كهذه متردية وآفاق مسدودة. كما تشير كل الدلائل إلى أن شعوب هذه المنطقة باتت تواقة إلى التغيير وممتلئة به أكثر من أي وقت مضى. شعوب لم تتردد أن تختار الحرية والتغيير كلما سمحت لها الفرصة لفعل ذلك، شعوب تشاهد بغضب واستياء الخراب الذي لحق بالحواضر العربية تباعا من بغداد والموصل إلى حلب ودمشق ثم القاهرة وصنعاء. شعوب سئمت من حالة الدونية التي أغرقتها فيها أنظمة متآكلة.

لم تعد الدولة الوطنية المتآكلة تعبّر عن الإرادة الجماعية لمواطنيها، ولا عن الاجتماع السياسي العربي، ولا هي قادرة على ضمانه، بل باتت كيانا في خريف العمر، سببا في تفكيكه وتقويضه، مما يؤجّج غضبا متصاعدا. ومن وقف متآمرا على ربيع العرب سيواجه اليوم خريف الغضب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى