تراجع التناحر بين التيارات الطلابية في جامعات المغرب…مراقبون يؤكدون أن البلاد تشهد تحولات مجتمعية وتطورات في المؤسسات التعليمية وتوجهات الشباب
يرى مهتمون بتاريخ الحركة الطلابية بالمغرب أن العنف في المؤسسات الجامعية انطلق تاريخياً منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، خصوصاً أثناء معارضة اليسار للنظام الحاكم، ثم بروز قوى إسلامية حاولت الدولة توظيفها لمواجهة المد اليساري.
تشهد الجامعات في المغرب أحياناً حوادث عنف بين التيارات “الفصائل” الطلابية المختلفة، بسبب خلافاتها السياسية والأيديولوجية، الشيء الذي يحول الحرم الجامعي إلى ساحات للنقاشات حامية الوطيس قد تتطور إلى صراعات واحتكاكات وصدامات دامية.
وتعيش الجامعات المغربية على وقع الصراعات والتناحرات بين الفصائل الطلابية المهيمنة، وعلى رأسها فصيل الطلبة “القاعديين”، وهو تيار يساري راديكالي، وفصائل طلابية إسلامية تنتمي إلى جماعة “العدل والإحسان”، أو حركة “التوحيد والإصلاح”، مع فصائل أمازيغية وأخرى صحراوية.
ويرى مراقبون أن الصراعات الخطرة التي كانت تندلع خلال عقود وسنوات خلت، بين الفصائل الطلابية المتناحرة، بدأت تشهد نوعاً من التراجع، جراء التحولات الجارية في المجتمع، وتطور هذه المؤسسات التعليمية، ومسارات وتوجهات الطلبة أنفسهم.
بروز ثم خفوت
في الموسم الجامعي الحالي شهدت جامعة أغادير (جنوب) صدامات بين طلبة ينتسبون إلى المناطق الصحراوية للبلاد، وبين آخرين يمثلون “التيار الأمازيغي”، تطورت إلى أحداث عنف بين الطرفين، بسبب اختلافات في المواقف والرؤى.
وكثيراً ما تندلع مواجهات وصدامات لفظية تتحول أحياناً إلى اشتباكات بين الطلبة المنتمين إلى فصائل مختلفة، لا سيما بين الفصائل الطلابية اليسارية الراديكالية ونظيرتها الإسلامية، يكون مسرحها عادة حرم الجامعة التي تنعقد فيها “حلقات دائرية” للنقاشات.
وشهدت جامعة فاس أحداث عنف بين الفصيل الطلابي “القاعدي” وبين طلبة منتسبين إلى “التيار الإسلامي”، عقب خلافات في شأن قضايا اجتماعية مطروحة، انتهت بمواجهات بالسيوف أفضت إلى إصابات دامية في صفوف الطلبة.
بدورها عرفت جامعة تطوان أحداث عنف بين طلبة من نفس الفصيلين المتطاحنين، أدت إلى مواجهات دامية استعمل فيها الطلبة المتعاركون أسلحة بيضاء وأدوات حديدية.
وتظل أحداث العنف التي عرفتها جامعة أغادير في 2018 أخطر المواجهات بين الطلبة في الجامعات المغربية خلال السنوات الأخيرة، إذ قتل طالب ينتمي إلى الفصيل “الأمازيغي” خلال مواجهات مع طلبة من “التيار الصحراوي”.
ويرى مهتمون بتاريخ الحركة الطلابية بالمغرب أن العنف في رحاب هذه المؤسسات الجامعية انطلق تاريخياً منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في ارتباط مع الأحداث السياسية في البلاد، خصوصاً معارضة اليسار للنظام الحاكم، ثم بروز قوى إسلامية حاولت الدولة توظيفها لمواجهة المد اليساري، وهي سياقات انعكست بدورها في فضاءات الجامعة.
وبعد أن كانت هذه المواجهات بين الطلبة بمختلف فصائلهم وتياراتهم تأججت بصورة لافتة خلال عقود مضت، لكن ظاهرة المواجهات بين الفصائل الطلابية أخذت في الخفوت خلال السنوات القليلة الأخيرة.
تغيير بوصلة الصراع
ويفسر المتخصص في شؤون التربية والتعليم، رشيد شاكري، انتشار ظاهرة الاصطدامات بين الطلبة في الجامعات المغربية بأربعة سياقات رئيسة، الأول أثر انهيار الحلف الاشتراكي وتجارب التيارات الإسلامية التي لم تحقق النجاح المنتظر في التدبير السياسي، بصورة كبيرة على النقاشات الأيديولوجية داخل الجامعات، وأدى إلى فقدان الثقة في الأيديولوجيات التقليدية.
[10/05, 11:08] عزت الجمال: واستطرد شاكري بأن “هذا التحول أفضى بالفصائل الطلابية إلى تغيير بوصلة الصراع نحو القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي لا تتطلب التزام أيديولوجية محددة، ولكنها تحتاج إلى توحيد الجهود لتحقيق أهداف مشتركة، كالبطالة والفساد والإصلاح التعليمي وحقوق الإنسان، وهو ما أسهم في خلق ثقافة التسامح والقبول بالآخر، وتوحيد النضالات بالتركيز على الأولويات التي تمس الفئات الطلابية”.
السياق الثاني، وفق المحلل ذاته، يكمن في تطوير البنية التحتية وتوسيعها، وتغيير المناهج الدراسية، وهندسة التعليم وبنية التكوين، وكذلك التعديل على ملمح التخرج، بالتركيز على المهارات المهنية بهدف تأهيل الخريجين لسوق الشغل، وبذلك تأثرت الجامعات بضغوط “النيوليبرالية”، التي ترى في “المؤسسات الجامعية قاطرة للتنمية الاقتصادية وليست معقلاً للتفكير الثوري والنقد الأيديولوجي”.
دور وسائط التواصل
وتحدث المتخصص التعليمي عن ثالث السياقات موضحاً أنه يسوغ تراجع التطاحنات بين الفصائل الطلابية بالجامعات المغربية، متمثلاً في مسار الإصلاحات الجوهرية التي شهدها المغرب في التسعينيات، وأدت إلى تحولات ديمقراطية مهمة، تمثلت خصوصاً في تحرير الإعلام، وتعزيز دور الأحزاب السياسية، وإجراء انتخابات تنافسية.
وفق شاكري “أسهمت هذه الإصلاحات في توفير فضاء أوسع للتعبير والمشاركة السياسية، وهو ما انعكس بدوره على البيئة الجامعية، إذ تراجعت حدة الصراعات الأيديولوجية، وتم التوجه نحو التفاوض، والتعبير عن الاحتجاج بوسائل أكثر سلمية”.
أما السياق الرابع فيتجسد في وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في التخفيف من الصراعات الأيديولوجية في الجامعات المغربية، إذ وفرت منصات بديلة، تمكن الطلبة من مناقشة القضايا وتحليلها، من دون الحاجة إلى الوجود الفعلي في الاحتجاجات أو التجمعات، بحسب شاكري.
واسترسل المتحدث بأن “هذه الوسائط ساعدت على توفير مصادر متنوعة للمعلومات، وأدت إلى تشكيل آراء ومواقف لدى الطالب أكثر تنويراً وتوازناً، من دون إغفال الأساليب الجديدة التي وفرتها هذه الوسائل للتعبير عن الرأي والاحتجاج كالحملات والعرائض الإلكترونية والتغريدات، وكذلك إمكانية تشكيل مجموعات وشبكات ذات الاهتمام والتوجه الفكري المشترك، مما يعزز الانتماء، ويشجع على التنوع والاختلاف”.
فضاءات للتنشئة والتنوير
من جهته يقول الأكاديمي الجامعي إدريس لكريني إنه “من المفترض أن تكون الجامعة الفضاء الطبيعي للنقاشات التي تعكس فكر الاختلاف وحرية التعبير، باعتبارها فضاء للمعرفة والعلم والفكر”.
وأفاد لكريني بأن الجامعة تلعب أدواراً موازية لكونها فضاءات للتنشئة والتنوير، وبأن هذه الاصطفافات التي تحصل بين الطلبة قد تكون بناءة ما دامت مقترنة باحترام حقوق الإنسان، وترسيخ القيم الراقية التي تستأثر بها الجامعة، كمجال للحوار وتبادل الأفكار، وإطلاق النقاشات البناءة وتكريس الحق في الاختلاف.
واستدرك المتحدث بأنه “أحياناً تتخذ هذه النقاشات صورة صراعات حادة لا تخلو من تطرف وعنف، الشيء الذي يتناقض مع الثقافة التي يفترض أن ترسخها الجامعة، ومع مبادئ حقوق الإنسان، لأنها أحياناً نقاشات تكرس التطرف والفكر الأوحد وغياب الحس النقدي وتقبل الاختلاف”.
وذهب لكريني إلى أنه “من منطلق أن الجامعة رافد ومشتل لإعداد النخب ومناخ للممارسة الديمقراطية، تظل إجمالاً هذه النقاشات أمراً إيجاباً ما دامت مقترنة بمبادئ نبيلة، إذ تتيح للطلبة إرساء أجواء الحوار، ومناقشة مختلف القضايا وتجاوز الإشكالات بين الأطراف المتصارعة”.