تعاون قضائي مغربي مع جمهورية الرأس الأخضر يرسّخ الشراكة الإفريقية في مواجهة الجريمة



بقلم: د. عزت الجمال – رئيس التحرير
في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجهها القارة الإفريقية، من جريمة منظمة، واتجار بالبشر، وتمويل غير مشروع، تبرز أهمية التعاون القضائي بين دول القارة باعتباره أداة حاسمة لتعزيز سيادة القانون، وضمان عدالة فعالة، وتحقيق أمن مشترك. وفي هذا السياق، تأتي زيارة العمل الرسمية التي قام بها الدكتور لويس خوسيه تافاريس لانديم، النائب العام ورئيس المجلس الأعلى للنيابة العامة بجمهورية الرأس الأخضر، إلى المملكة المغربية، بين 11 و17 ماي 2025، والتي توجت بتوقيع مذكرة تفاهم استراتيجية مع رئاسة النيابة العامة المغربية.
هذا اللقاء الهام الذي جمعه بالسيد مولاي الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، لم يكن مجرد مناسبة دبلوماسية، بل محطة نوعية لتأسيس تعاون قضائي يرتكز على الرؤية المشتركة للدولتين في إرساء عدالة مستقلة وفعالة، قادرة على الاستجابة لرهانات العصر.
قمة قضائية إفريقية بنَفَس استراتيجي
اللقاء الذي عُقد بمقر رئاسة النيابة العامة بالرباط، تميز بمباحثات معمقة تناولت آليات العمل المشترك في مجالات الملاحقة الجنائية، والتعاون في التحقيقات، وتبادل المعلومات والخبرات، وتطوير آليات التكوين والتأهيل المهني لأطر النيابة العامة في البلدين.
وقد عبّر الدكتور تافاريس لانديم عن تقديره الكبير للتجربة المغربية، وحرصه على أن تستفيد النيابة العامة بجمهورية الرأس الأخضر من هذا النموذج الإفريقي الناجح، خصوصًا فيما يتعلق باستقلال السلطة القضائية، وفعالية النيابة العامة في تنفيذ السياسة الجنائية، واحترام حقوق الإنسان.
النيابة العامة المغربية.. تجربة إصلاحية رائدة
عرض الوفد المغربي ملامح الإصلاح القضائي الذي انخرط فيه المغرب منذ إقرار دستور 2011، والذي أفضى إلى فصل النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، ومنحها استقلالًا تامًا في ممارسة مهامها. وقد أبرز السيد مولاي الحسن الداكي مختلف الأوراش التي تشتغل عليها رئاسة النيابة العامة، ومنها:
تعميم الرقمنة على مستوى النيابات العامة
تطوير منظومة محاربة الجريمة المنظمة
تكوين قضاة النيابة في مجال الجرائم المالية والإلكترونية
الانفتاح على التجارب الإفريقية والدولية
تعزيز التعاون جنوب–جنوب في المجال القضائي
يشكل هذا التعاون القضائي امتدادًا طبيعيًا للرؤية المغربية الرامية إلى ترسيخ الشراكة جنوب–جنوب كخيار استراتيجي، لا سيما مع الدول الإفريقية الناطقة بالبرتغالية، ومنها الرأس الأخضر. وتُعد هذه الاتفاقية نموذجًا عمليًا لما يمكن أن تقدمه العلاقات الإفريقية–الإفريقية من حلول مبتكرة في مجالات الأمن والقضاء والعدالة.
الاتفاق الموقّع لا يقتصر على الإطار النظري، بل يشمل برامج تنفيذية، تشمل تبادل الوفود، وتنظيم دورات تكوينية، وتنسيق الجهود في المنتديات الدولية، وتطوير آليات التعاون في ملاحقة الجرائم العابرة للحدود.
دور القيادة المؤسسية في بناء الثقة
يُحسب لرئيس المجلس الأعلى للنيابة العامة بجمهورية الرأس الأخضر، الدكتور لويس خوسيه تافاريس لانديم، حرصه على تعزيز موقع النيابة العامة في بلاده كشريك دولي فاعل، منفتح على التجارب الناجحة في القارة، ويؤمن بضرورة إرساء علاقات مؤسساتية تتجاوز الحدود الجغرافية لصالح المصلحة العامة والعدالة.
وقد عبر في أكثر من مناسبة عن إعجابه بالإصلاحات القضائية المغربية، وأكد على تطلع بلاده إلى بناء نموذج تعاون طويل الأمد مع المغرب، يربح فيه الطرفان، وتستفيد منه شعوب المنطقة.
خاتمة: نحو عدالة إفريقية موحدة الرؤية
إن التوقيع على مذكرة التفاهم بين المغرب وجمهورية الرأس الأخضر ليس مجرد إجراء إداري، بل يعكس تحولًا نوعيًا في العلاقات الإفريقية الإفريقية في بعدها القضائي. إنه تعبير عن وعي مؤسسي جديد بأن الجريمة لا يمكن مواجهتها إلا بتعاون حقيقي، وتبادل فعلي للخبرات والمعطيات، وتناغم في الرؤية حول مفاهيم العدالة والحقوق.
في زمن تتزايد فيه التهديدات الأمنية والرقمية والاقتصادية، يصبح القضاء هو خط الدفاع الأول عن استقرار الشعوب وصون السيادة الوطنية. والتجربة المغربية–الرأس الأخضرية تمثل اليوم نموذجًا ملهمًا لما يمكن أن يقدمه التعاون الإفريقي المتوازن في خدمة العدالة والمواطنين.